لقد مر عامان منذ أن وقّع رئيس الوزراء السابق، بوريس جونسون، اتفاقه التجاري بشأن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي «بريكست»، وأعلن بانتصار أن بريطانيا ستكون «مزدهرة وديناميكية وراضية» بعد استكمال خروجها من الاتحاد الأوروبي.

ووفقًا لجونسون، فإن اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ستمكّن الشركات البريطانية من «القيام بمزيدٍ من الأعمال» مع الاتحاد الأوروبي، وستترك بريطانيا حرة في إبرام الصفقات التجارية حول العالم، مع الاستمرار في التصدير بسلاسة إلى سوق الاتحاد الأوروبي الذي يضم 450 مليون مستهلك.

في الواقع، أدى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى إعاقة اقتصاد المملكة المتحدة، والتي تعتبر العضو الوحيد في مجموعة الدول الصناعية السبع -مجموعة الاقتصادات المتقدمة التي تضم أيضًا كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والولايات المتحدة- التي لديها اقتصاد أصغر مما كان عليه قبل الجائحة.

أضرت سنوات من عدم اليقين بشأن النظرة المستقبلية التجارية مع الاتحاد الأوروبي، الشريك التجاري الأكبر لبريطانيا، بالاستثمارات التجارية، والتي انخفضت في الربع الثالث بنسبة أقل من 8% مقارنة بمستويات ما قبل انتشار الوباء، على الرغم من وجود صفقة تجارية بين المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي سارية لمدة عامين تقريبًا.

كما تعرض الجنيه الإسترليني لضربة موجعة، ما جعل الواردات أكثر تكلفة، ما تسبب في اشتعال التضخم، في حين أخفقت المساعي تعزيز الصادرات، وتمتعت أجزاء أخرى من العالم بطفرة تجارية بعد الوباء.

فقد الجنيه ما يقرب من خُمس قيمته منذ استفتاء الاتحاد الأوروبي، حيث انخفض الجنيه الإسترليني بنسبة 19% مقابل الدولار الأمريكي، منذ أن صوتت بريطانيا لمغادرة الاتحاد الأوروبي في 23 يونيو/ حزيران 2016.

ووضعت اتفاقية «بريكست» العديد من الحواجز التجارية أمام الشركات البريطانية والشركات الأجنبية التي استخدمت بريطانيا كقاعدة أوروبية، الأمر الذي أثر على الواردات والصادرات، وقام بتقويض الاستثمار، وبالتالي أسهم في نقص حجم العمالة.

كل هذه العوامل أدت إلى تفاقم مشكلة التضخم في بريطانيا، الأمر الذي أضر بالعمالة ومجتمع الأعمال.

ويقول ألان وينترز، المدير المشارك لمركز سياسة التجارة الشاملة في جامعة ساسكس: «السبب الأكثر منطقية لكون أداء بريطانيا أسوأ نسبيًا من الدول المماثلة هو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».

إن إحساس العتمة الذي يخيّم على اقتصاد المملكة المتحدة يشعر به العمال المضربون، الذين يحتجون بأعداد أكبر من أي وقت مضى بسبب الرواتب والظروف المعيشية، حيث إن أسوأ تضخم منذ عقود يؤثر على أجورهم الحقيقية، في الوقت نفسه، تعمل الحكومة على خفض الإنفاق وزيادة الضرائب لسد الفجوة في موازنتها.

على الرغم من أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ليس سبب أزمة تكلفة المعيشة في بريطانيا، فإنه أسهم في صعوبة حل المشكلة.

ويقول مايكل سوندرز، كبير المستشارين في أكسفورد إيكونوميكس ومسؤول سابق في بنك إنجلترا: «اختارت المملكة المتحدة «بريكست» في استفتاء، لكن الحكومة اختارت بعد ذلك أصعب أشكال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي صعوبة، ما أدى إلى زيادة التكلفة الاقتصادية، وأي أمل في الصعود الاقتصادي من «بريكست» قد ولى إلى حد بعيد».

الشركات تدفع الثمن

وعلى الرغم من أن بريطانيا صوتت لمغادرة الاتحاد الأوروبي في يونيو 2016، فإنه لم يتم الانتهاء من خروجها من السوق الموحد والاتحاد الجمركي إلا في 24 ديسمبر/ كانون الأول 2020، عندما اتفق الجانبان أخيرًا على اتفاقية تجارة حرة.

ودخلت اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، المعروفة باسم اتفاقية التجارة والتعاون، حيز التنفيذ في 1 يناير/ كانون الثاني 2021.

وألغت الاتفاقية الرسوم الجمركية على معظم السلع، ولكنها أدخلت مجموعة من الحواجز غير الجمركية، مثل الضوابط الحدودية والفحوصات الجمركية ورسوم الاستيراد والتفتيش الصحي على المنتجات النباتية والحيوانية.

قبل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كان بإمكان مُزارع في مقاطعة كنت البريطانية شحن حمولة شاحنة من البطاطس إلى باريس بنفس السهولة التي قد يرسلها إلى لندن، تلك الأيام لم تعد موجودة.

وتقول ميشيل أوفنز، مؤسسة «بريطانيا الأعمال الصغيرة»: «نسمع قصصًا كل يوم من الشركات الصغيرة حول كابوس الاستمارات والنقل وحاملي البضائع والأشياء التي تتعطل لأسابيع في كل مرة.. الطول الملحمي للمشكلات أصبح كالشبح».

وتضيف أوفنز لسي إن إن: «الطريقة التي سارت بها الأمور في العامين الماضيين سيئة حقًا للشركات الصغيرة».

ويقدر الباحثون في كلية لندن للاقتصاد أن المنتجات المتنوعة المصدرة من المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي انخفضت بنسبة 30% خلال السنة الأولى من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وقالوا إن هذا كان على الأرجح لأن صغار المصدرين خرجوا من أسواق الاتحاد الأوروبي الصغيرة.

على سبيل المثال شركة Little Star، وهي شركة بريطانية تصنع المجوهرات للأطفال، انطلقت أعمالها في هولندا، وكانت لديها خطط للتوسع في فرنسا وألمانيا بعد ذلك، ولكن منذ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أصبح اثنان فقط من أكثر من 30 من عملائها الهولنديين مستعدين للتعامل مع التكاليف والأعمال الورقية للحصول على منتجات من الشركة.

المنتجات التي كان يستغرق شحنها يومين تستغرق الآن ثلاثة أسابيع، في حين أن رسوم الاستيراد وضرائب المبيعات جعلت التنافس مع صائغي المجوهرات الأوروبيين أكثر صعوبة، وفقًا لروب والكر، الذي شارك في تأسيس الشركة مع زوجته فيكي، في عام 2017.

وتبحث الشركة الآن عن فرص للنمو والتوسع في الولايات المتحدة.

ويقول والكر: «أليس من الجنون أن علينا أن ننظر إلى الجانب الآخر من المحيط الأطلسي للقيام بأعمال تجارية، لأنه من الصعب جدًا التعامل مع أشخاص على بعد 30 ميلاً؟».

وأفاد استطلاع للرأي، أجرته غرفة التجارة البريطانية لأكثر من 1168 شركة، نُشر هذا الشهر، بأن 77% قالوا إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يساعدهم في زيادة المبيعات أو تنمية أعمالهم، وقال أكثر من نصفهم إنهم يجدون صعوبة في التكيّف مع القواعد الجديدة لتجارة السلع.

وأخبرت شركة Siteright Construction Supplies، التي تتخذ من مقاطعة دورست مقرًا لها، للغرفة التجارية، أن استيراد قطع غيار من الاتحاد الأوروبي لإصلاح الآلات المعطلة أصبح «كابوسًا مكلفًا ويستغرق وقتًا طويلًا».

ووفقًا للشركة، «كان خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أكبر أشكال البيروقراطية على الإطلاق على الأعمال التجارية».

وقالت شركة Nova Dog Chews، وهي شركة منتجة للوجبات الخفيفة للكلاب، إنها كانت ستفقد كل تجارتها مع الاتحاد الأوروبي لو لم تقيم مقرًا لها داخل الاتحاد، وأضافت: «لقد كلف هذا أعمالنا مبلغًا ضخمًا من المال، والذي كان من الممكن استثماره في المملكة المتحدة لولا خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي».

وقال متحدث باسم الحكومة البريطانية لشبكة CNN، إن خدمة دعم الصادرات الحكومية قدمت للمصدرين «دعمًا عمليًا» بشأن تنفيذ اتفاقية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وأضاف المتحدث أن الاتفاقية هي «أكبر صفقة تجارة حرة بدون رسوم جمركية في العالم، وهي صفقة تجارة حرة بدون حصص، وتؤمّن الوصول إلى أسواق المملكة المتحدة عبر قطاعات الخدمات الرئيسية وتفتح فرصًا جديدة للشركات البريطانية في جميع أنحاء العالم».

ضرر دائم للتجارة

لن تستبدل بريطانيا بسهولة ما فقدته بخسارة الوصول الحر إلى أكبر كتلة تجارية في العالم.

الصفقات التجارية الجوهرية الوحيدة التي أبرمتها منذ خروجها من الاتحاد الأوروبي، والتي لم تتجدد ببساطة بصفتها عضوًا في الاتحاد الأوروبي، كانت مع أستراليا ونيوزيلندا.

ووفقًا لتقديرات الحكومة نفسه، سيكون لهذه الصفقات تأثير ضئيل على اقتصاد المملكة المتحدة، حيث ستؤدي إلى زيادة الناتج المحلي الإجمالي على المدى الطويل بنسبة 0.1% و0.03% فقط على التوالي.

على النقيض من ذلك، يتوقع مكتب المملكة المتحدة لإدارة الموازنة، الذي يصدر توقعات اقتصادية للحكومة، أن يؤدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي إلى خفض إنتاج بريطانيا بنسبة 4% على مدار 15 عامًا مقارنةً بالبقاء داخل المجموعة، ومن المتوقع أن تنخفض الصادرات والواردات بنحو 15% على المدى الطويل.

وأثبتت البيانات الأولية ذلك، فوفقًا لمكتب الموازنة العمومية في الربع الأخير من عام 2021، كانت أحجام صادرات البضائع البريطانية إلى الاتحاد الأوروبي أقل بنسبة 9% من مستويات عام 2019، مصاحبةً لانخفاض الواردات من الاتحاد الأوروبي بنسبة 18% أقل من مستوياتها، وكانت صادرات السلع إلى دول خارج الاتحاد الأوروبي أقل بنسبة 18% مقارنة بعام 2019.

خسرت المملكة المتحدة فرصة انتعاش التجارة العالمية في أعقاب الوباء بحلول نهاية عام 2021، انتعش إجمالي حجم صادرات السلع بين الاقتصادات المتقدمة نسبة 3% أكثر من مستويات ما قبل الوباء، في حين ظل حجم صادرات البضائع البريطانية أقل بنحو 12% من مستوياتها السابقة.

وقال مكتب الموازنة العمومية، في تقرير صادر في مارس/ آذار الماضي، إن المملكة المتحدة «تبدو أنها أصبحت اقتصادًا أقل كثافة في التجارة الخارجية، حيث انخفض نصيب التجارة من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 12% منذ عام 2019، أي مرتين ونصف المرة أكثر من أي دولة أخرى في مجموعة السبع».

ووفقًا لجون دو، أستاذ الاقتصاد في جامعة أستون في برمنغهام، فقد يكون الانخفاض في الصادرات إلى الدول غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي علامة على أن الشركات البريطانية أصبحت أقل قدرة على المنافسة لأنها تكافح ارتفاع تكاليف سلاسل التوريد بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي.

وأضاف دو لشبكة CNN: «لقد تضررت القدرة التجارية للمملكة المتحدة بشكل دائم “بسبب بريكست”، وهذا لا يعني أنه لا يمكن التعافي، ولكنها شهدت ذلك التراجع لسنوات عديدة الآن».

وتقدّر دراسة أجراها مركز الإصلاح الأوروبي، وهو مركز أبحاث، أنه على مدار 18 شهرًا حتى يونيو/ حزيران 2022، كانت تجارة السلع في المملكة المتحدة انخفضت بنسبة 7% أقل مما كانت عليه لو بقيت بريطانيا في الاتحاد الأوروبي.

كما انخفض حجم الاستثمار بنسبة 11%، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 5.5% مما كان يمكن أن يكون عليه، الأمر الذي يكلف الاقتصاد 40 مليار جنيه إسترليني (48.4 مليار دولار) من عائدات الضرائب سنويًا، وهذا يكفي لدفع ثلاثة أرباع تخفيضات الإنفاق والزيادات الضريبية التي أعلنها وزير المالية البريطاني جيريمي هانت في نوفمبر/ تشرين الثاني.

أعباء اقتصادية فادحة

من المتوقع أن يكون أداء اقتصاد المملكة المتحدة الأسوأ خلال العام المقبل، من بين الدول المتقدمة.

وتتوقع منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أن يتقلص اقتصاد المملكة المتحدة بنسبة 0.4%، متقدمًا فقط على روسيا الواقعة تحت طائلة العقوبات. ومن المتوقع أن يكون الناتج المحلي الإجمالي في ألمانيا أقل بنسبة 0.3%.

رحلة المملكة المتحدة الصعبة إلى الأمام.

وتشير التوقعات الصادرة عن منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، أو OECD، إلى أن يكون للمملكة المتحدة أكبر تباطؤ في عام 2023، وأضعف انتعاش في عام 2024 بين مجموعة الدول السبع.

ويتوقع صندوق النقد الدولي نموًا بنسبة 0.3% فقط للناتج المحلي الإجمالي للمملكة المتحدة العام المقبل، متقدمًا على ألمانيا وإيطاليا وروسيا فقط، حيث من المتوقع أن ينكمش الناتج المحلي الإجمالي لها أيضًا.

وبحسب كلتا المؤسستين، فإن التضخم المرتفع وارتفاع أسعار الفائدة سيؤثران على إنفاق المستهلكين والشركات في بريطانيا.

ووفقًا لاتحاد الصناعة البريطانية، وهو مجموعة أعمال رائدة، فقد تسارع انكماش نشاط القطاع الخاص في ديسمبر/ كانون الأول، وانخفض لمدة خمسة أرباع متتالية حتى الاَن.

وقال مارتن سارتوريوس، كبير الاقتصاديين في الاتحاد، في بيان له، إن الاتجاه التنازلي «يبدو أنه سيتعمق» في عام 2023.

وأضاف: «لا تزال الشركات تواجه عددًا من الرياح المعاكسة، مع ارتفاع التكاليف ونقص العمالة وضعف الطلب، ما يدفع نحو توقعات قاتمة للعام المقبل».