في عالم اليوم الذي يتغنى بالحريات و الديمقراطية وحقوق الإنسان، وفي عصر طفرة الشبكة العنكبوتية وتطبيقاتها، وصعود متلازمة المعلومات والاتصالات بقوة، أضحى الإنترنت -الذي برز كواحد من أعظم الاختراعات في التاريخ الإنساني- قوة فاعلة داخل الدول

وفي العلاقات الدولية عبر البعد الأمني والإعلامي بالدرجة الأولى، فالإنترنت ارتقى من كونه خدمة جليلة إلى أن يكون سلطة جدلية، وهذه السلطة النافذة بدت مؤرقة للغاية وباتجاهين متناقضين: الشعوب وحريتها في التعبير من جهة، والأنظمة وقدرتها على التقييد من جهة أخرى، ويتخللهما نفوذ أرباب عمالقة شركات التكنولوجيا بطبيعة الحال.

ولا نجافي الواقع إذا قلنا إن الإعلام الحديث قد كسر حاجز هيمنة وسيطرة الحكومات على الفضاء الإعلامي في عالم مجتمعات المعلومات والمواطنة الرقمية الذي أرسته شبكة الإنترنت والتطبيقات العاملة من خلالها، وجعل الأنظمة -الشمولية منها بشكل خاص- تستخدم التكنولوجيا والإنترنت ضمناً كأدوات لبرمجة الشعوب والتأثير على الرأي العام حيناً، ولتقييد الحريات أو الرقابة عليها على أقل تقدير حيناً آخر.

وفي خضم الثورة الصناعية الرابعة وتباشير الدبلوماسية التكنولوجية وأعتاب الميتافيرس وبروز الذكاء الاصطناعي، قد يبدو غريباً، لا بل مستهجناً، من يريد أن يقفز إلى الوراء ويتقهقر فكراً وزماناً ومكاناً من خلال حجب الإنترنت وتقييده، وهو الذي يُعد مجازاً «أوكسجين العقل الإنساني» في القرن الحادي والعشرين، فالتشريع والقوننة للتكنولوجيا والإعلام الحديث من قبل الحكومات بغرض التنظيم في مواجهة فوضى المنابر الإلكترونية المنفلتة، قد استحالت في كثير من الأحيان إلى «قضية حق يراد بها باطل»، ويستخدم كأداة للتضييق على الحريات وتكميم الأفواه وطمس الحقائق وتحريفها، وبكلمات أخرى لقد أضحت الحقيقة أولى ضحايا عصر عولمة التكنولوجيا والاتصالات في كثير من الأحيان، خاصة في المناطق الملتهبة حول العالم. فالمعلومة تبقى لبنة الحقيقة، ورغبة بعض الحكومات والجهات بوقف تدفقها تارة أو التحكم بمضمونها وانسيابها تارة أخرى يعد عاملاً حاسماً يسهم في تزييف الحقائق أو إيقاف وصولها خدمةً للأزمات والحروب والإرهاب والفوضى.

تلك الحقائق تدفع دوماً الحكومات والشركات وحتى الأفراد المعنيين إلى البحث الحثيث عن المخارج الممكنة لاحتواء هذا الوباء المستفحل للفكر والسلوك الإنساني الرسمي والشعبوي إبان الأزمات كلما حلت في مكان ما من هذا العالم، حيث طوراً يتم التوجيه بضرورة الارتقاء بالوعي السلطوي في دولة منكوبة ما من خلال الضغط والترغيب والترهيب عبر العلاقات الثنائية أو متعددة الأطراف للخروج من هذه المآزق المشتعلة على أراضيها، وطوراً آخر يتم اللجوء إلى الناظم الأقوى للسلوكيات الحكومية وهو القانون الدولي والمنظمات الأممية، ولعل التكامل بين الضغوطات الحكومية المكثفة والقوانين الدولية المشددة هو الصيغة المرجوة للنأي بالأنظمة عن الغوص عميقاً في متاهات السلوكيات الخاطئة على مستوى العلاقات مع شعوبها تكنولوجياً.

فحقيقة أن عالم إعلام اليوم يتنفس عبر الإنترنت ويستشري ضمن تطبيقاته ويدارُ من خلال ذكائه الاصطناعي، واقعٌ يجعل لزاماً على دول العالم الفاعلة في العلاقات الدولية، والتي خاضت بقوة في أمواج الثورة الرابعة، أن تذهب بعيداً في لجم زمام الخطايا الإلكترونية التي يعاني منها العديد من شعوب دول العالم، فتلك التكنولوجيا الحضارية ومنتجاتها التي تعد إحدى مستجدات الحياة الأكثر حيويةً في القرن الحادي والعشرين، تستحق أن تكون أداةً معرفية تدعم بها الحكومات شعوبها، بدلاً من أن تتحول سلاحاً في مواجهتهم وسبيلاً لقمعهم.

عناوين وأفكار وحقائق قد يكون مبالغاً بها بعض الشيء في نظر البعض، لكنها تَصدُق للأسف في كثير من الأحيان، إذا علمنا أنها نتاج واقع فرضه تخلف النظم خارج إطار عولمة «اللاحدود» في جميع المجالات، هذه العولمة التكنولوجية التي حملت الكبير والكثير من التطور والتقدم في الحقول المعرفية والتكنولوجية والتنموية لمناطق في العالم، وتخلفت عن دعم ومساندة الإصلاح السياسي المنشود لبعضها الآخر.

*الدكتور محمد فراس النائب هو أستاذ في العلاقات الدولية ومستشار كلية الإعلام في الجامعة الأمريكية في الإمارات، وامتدت خبرته على مدى عشرين عاماً، وتميز بإطلاقه للكثير من الطروحات الاستثنائية للحلول المعرفية المتنوعة.

** الآراء الواردة في المقابل لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».