تقف «بتكوين» اليوم، بعد 14 عاماً من الدورات الاقتصادية المتأرجحة، بثبات ونضج مقارنة بالسنوات الماضية مع نمو قيمتها السوقية بشكل لافت واستراتيجي.

كان ظهور «بتكوين» للمرة الأولى في العام 2009 قد ترافق مع قيام نظام مالي جديد، ذاتي التحكم وأكثر استقلالية وديمقراطية.

نشأ هذا النظام المالي الجديد المتكامل بحد ذاته، مباشرة «من الناس وإلى الناس»، ومن دون الحاجة إلى تدخل طرف ثالث أو أكثر لتسهيل عمليات التبادل فيما بينها.

نظام ذاتي ومتكامل

وتتكامل «بتكوين» اليوم مع مختلف أنواع الاستثمارات، سواء في صناديق الاستثمار السيادية أو في خطط الشركات العالمية أو المالية في «وول ستريت».

ولا يقتصر دور العملة المشفرة على كونها أداة مضاربة أو ربح سريع يتبناها الجيل الجديد من شباب Gen Z، بل إنها أداة استثمار تخضع للتجارب والاختبارات، والامتحان الذي تخوضه الـ«بتكوين» حالياً هو -من دون شك- الأكثر عمقاً وتعقيداً.

نشأ هذا النظام المالي الجديد المتكامل بحد ذاته، مباشرة «من الناس وإلى الناس»

ما يدفعنا للتساؤل فيما لو كان الـ«بتكوين» قد نجحت في أن تكون نظاماً مستقلاً؟ وهل استطاعت تجاوز مرحلة «إثبات المفهوم Proof of Concept» رغم عدم تقديمها أي نوع من الضمانات الحسية، ولعل أولها الثقة بين المتداولين؟

لطالما اعتمد الاقتصاد العالمي على الدولار كعملة احتياطية، تطبيقاً لنظام «بريتون وودز Bretton woods» الذي لا يزال حتى الحاضر القريب يلقى استحساناً وقبولاً في كونه نظاماً قائماً على مبدأ الثقة المتجسدة بضمانات احتياطي الذهب الذي توفره الولايات المتحدة مقابل الدولار.

ولكن هل سيبقى هذا التوجه سائداً مع انتهاج بعض الدول سياسة التقليل من الاعتماد على الدولار في اقتصاداتها الوطنية؟ وما فرص الـ«بتكوين» في حال تحجيم الدولرة والتضخم والتغيير في النظام العالمي؟

في الواقع، هذه العوامل الثلاث منفردة أو مجتمعة سيكون لها بالغ التأثير ليس فقط على الاقتصاد العالمي، بل أيضاً على مسار تطور ونمو «بتكوين».

فوفقاً لصندوق النقد الدولي، تراجعت حصة الدولار من الاحتياطي النقدي العالمي إلى أدنى مستوياتها خلال الـ25 سنة الماضية، ومن المرجح أن يستمر هذا التراجع في ظل توجه الدول إلى التقليل من الاعتماد على الدولار.

إثبات الذات رغم التحديات

«بتكوين»، التي تضاعفت قيمتها السوقية منذ بداية العام، لطالما تم استخدامها كأداة للتحوط وفرصة للنمو، لكنها اليوم ترزح تحت عبء أخطار تأثرها بالنظم والقوانين.

لا يقتصر دور العملة المشفرة على كونها أداة مضاربة أو ربح سريع يتبناها الجيل الجديد من شباب Gen Z، بل إنها أداة استثمار تخضع للتجارب والاختبارات

تتصف «بتكوين» بكونها عملة رقمية بديلة للعملات التقليدية، فكلما قل تبني الدولار كعملة احتياطية ستحظى «بتكوين» بفرص أكبر لجذب نسبة من هذه الاحتياطات.

ومن المستبعد في ظل هذه المعادلة أن تأخذ الحكومة الأميركية دور المتفرج، وسيكون تدخلها أمراً وارداً بهدف تنظيم القطاع أو حظر استخدام «بتكوين»، إذا ما أدركت تهديداته للنظام المالي التقليدي، لا سيما بظل صعودها كعملة منافسة حقيقية للدولار.

وتبرز «بتكوين» في سياق التضخم كفرصة بديلة جاذبة، فالعرض الثابت للعملة، والذي لا يزيد على 21 مليون عملة فقط، وقاعدة الشبكات اللامركزية والشفافة، زادت من حجم الطلب، والإقبال المتزايد من قبل المستثمرين بهدف حماية ثرواتهم والإفادة من الارتفاع في سعر «بتكوين» كونها عملة غير مرتبطة بطبيعتها بنظام العملات التقليدية.

وتشير المعطيات في حال التغير المستقبلي في وتيرة معدلات الفائدة والتراجع في معدلات التضخم، إلى أن إمكانية دخول الاقتصادات في مرحلة الانكماش مرشحة للازدياد.

ويؤدي الانكماش بشكلٍ عام إلى انخفاض في أسعار السلع والخدمات، لكن إحدى مفاعيله هو الركود أو التراجع في حجم الإنفاق والاستثمار، الأمر الذي سيُلقي بظلاله على «بتكوين» ويحد من حجم الأموال والإنفاق.

وستستتبع إمكانية تحول الصين إلى قوة اقتصادية عظمى ارتفاعاً في حجم الطلب على «بتكوين» كعملة عالمية، وهذا سيؤدي إلى ارتفاع أسعارها وجعلها خياراً استثمارياً جاذباً.

وأخيراً، حتى لو قرر المنظمون حظر التداول بالعملة المشفرة لتأثيراته السلبية على إرث العملات التقليدية، فستبقى «بتكوين» واقعاً قائماً كاقتصاد موازٍ ومنفصل.

راشد الخزاعي، خبير اقتصادي ومستشار تقني متخصص في الأسواق المالية والعملات المشفرة والرقمية ودفتر الحساب الموزع DLT وإعادة هيكلة الشركات وإصلاحها، له خبرة بإدارة الصناديق والتحليل الأساسي والاقتصاد القياسي، وهو مستشار لعدة مؤسسات عامة وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا.

الآراء الواردة في المقال لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر «CNN الاقتصادية».