يجمع بين الهواتف الذكية والأكواب الزجاجية والمباني عنصر مدهش، ألا وهو الرمل، وفي الواقع تعد هذه المادة الموجودة في كل مكان ثاني أكثر الموارد الطبيعية استغلالاً على وجه الأرض بعد الماء، وفقاً لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، لكنها الآن تقف على أعتاب النُدرة بسبب زيادة الاستهلاك.

زاد استخدام الرمال على مدى العقود الثلاثة الماضية ثلاث مرات، ويرجع ذلك إلى حد بعيد إلى الزيادة الهائلة في التوسع الحضري الذي يعتمد على استخدام الرمال ومواد البناء الأخرى المعروفة باسم الركام، وتؤدي الزيادة في استخراج الموارد إلى تفاقم ظاهرة تغير المناخ وفقدان التنوع البيولوجي وارتفاع مستوى سطح البحر.

وعرّف باسكال بيدوزري، مدير قاعدة بيانات الموارد العالمية التابع لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، الرمال بأنها «خاصية تتعلق بالحجم يتراوح حجمها بين 0.075 ملم و4.75 ملم ويعتمد مكون الرمال نفسه على الصخور التي ينشأ منها».

وفي مقابلة مع «CNN الاقتصادية»، ميز بيدوزري بين أنواع الرمال قائلاً «إذا كانت خشنة تسمى حصى، وإذا كانت ناعمة نسميها الطمي ويتم إنتاجها عن طريق التآكل النهري أو التآكل الجليدي أو التآكل البحري.. وإذا كان رملاً ناعماً جداً أو نقياً جداً نسميه رمل السيليكا ويستخدم في صناعة الزجاج والنوافذ، وإذا كان أكثر نقاء فيمكننا صنع ال رقائق الإلكترونية لأجهزة الكمبيوتر».

ابرز استخدامات صناعة الرمال

الرمال والتوسع الحضري

تشهد صناعة البناء التجاري ازدهاراً، وتقول الأمم المتحدة إن المدن في جميع أنحاء العالم تنمو بوتيرة أسرع من أي وقت مضى، إذ يعيش 54 في المئة من سكان العالم الآن في المناطق الحضرية، ومن المتوقع أن تصل النسبة إلى 68 في المئة بحلول عام 2050.

ووفقاً لتقرير الأمم المتحدة عن آفاق التحضر في العالم، فإن التحضر، جنباً إلى جنب مع النمو السكاني الإجمالي في العالم، يمكن أن يضيف 2.5 مليار شخص آخرين من سكان المدن بحلول عام 2050.

وفي عام 1990، كانت هناك 10 مدن كبرى تضم 10 ملايين شخص أو أكثر، واليوم توجد 33 مدينة كبرى، وبحلول عام 2030، من المتوقع أن يصل عددها إلى 41.

ومع توسع المدن الكبرى في العالم ووصولها إلى السماء لاستيعاب المزيد من الناس، فإن سلسلة توريد الموارد الطبيعية للأرض من الرمال، وهي المادة الأساسية للبناء وبالتالي للتنمية الاقتصادية، تُدفع إلى حافة النُدرة.

لذلك، بينما يستعد العالم لاستقبال ملياري شخص إضافي خلال القرن المقبل وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، فإن التأثير الذي لا رجعة فيه لاستخراج الرمال على البيئة سوف يتضخم، إذ سيحتاج الناس إلى منازل وبنية تحتية ووظائف تعتمد على الرمال بشكل مباشر أو غير مباشر.

ويبلغ الاستهلاك العالمي السنوي للرمال 50 مليار طن، أي نحو 18 كيلوغراماً للشخص الواحد، وفقاً لبيدوزري، وهو ما يكفي لبناء جدار يبلغ ارتفاعه 27 متراً وعرضه 27 متراً حول خط استواء الأرض كل عام.

وتستهلك صناعة البناء والتشييد أكثر من نصف هذا الحجم سنوياً، ويسمح الملمس الخشن لحبيبات الرمل بالمزج الفعال بين الإسمنت والركام، ما يخلق مادة قوية ومرنة قادرة على تحمل التلف.

وأوضح بيدوزري «لكننا نحتاج إليها أيضاً لاستصلاح الأراضي، وبالتالي نضطر لردم مناطق من البحر على سبيل المثال، وهذا يخلق طلباً عالياً للغاية» يتجاوز قدرة النظام على إنتاج الرمال.

ويضيف أنه نتيجة لذلك، فقد نفدت الرمال بالفعل في بلدان مثل جزر ساموا، التي بات لديها الآن كميات محدودة من المواد اللازمة للحماية من مخاطر ارتفاع مستوى سطح المياه وموجات المد والفيضانات.

وفي الوقت نفسه، نفدت أيضاً رمال سنغافورة، التي باتت تستورد الرمال من جميع البلدان المجاورة لتوسيع أراضيها بنسبة 25 في المئة، وفي عام 2022 استوردت سنغافورة رمالاً بقيمة 46.6 مليون دولار، لتصبح خامس عشر أكبر مستورد للرمال في العالم، وفقاً لمرصد التعقيد الاقتصادي.

أما بلجيكا وهولندا، فتملكان من الرمال ما سيكفيهما بين 80 عاماً و100 عام، وهما رابع وخامس أكبر مستوردي الرمال في العالم.

وتتسم الرمال بأنها ثقيلة ومنخفضة القيمة، وفي بعض الأماكن يمكن أن يصل السعر إلى ثلاثة دولارات، لكن تكلفة نقل الرمال باهظة، إذ يقول بيدوزري إن كلفة استخراج ونقل طن واحد من الرمال قد تتراوح بين 30 و40 دولاراً، ولذلك فهو لا يسافر بعيداً، وبدلاً من ذلك تُستخرج معظم الرمال للاستخدام المحلي أو تصديره إلى الدول المجاورة.

وتستخدم بعض البلدان الغنية بالمعادن الرمال التي تنتج عن استخراج المعادن، مثل الحديد والألومنيوم، التي ينتج عنها أيضاً رمل وحصى يمكن استخدامه في المباني.

على سبيل المثال، يأتي ما يصل إلى 70 في المئة من مواد البناء في تشيلي من تلك الصناعات الاستخراجية.

ما البدائل؟

يعتبر بيدوزري أن أساس المشكلة هو أنه ليس هناك الكثير من البدائل للرمل في قطاع البناء لأن الكمية التي يستخدمها العالم كبيرة جداً.

وأوضح قائلاً «لكن يمكننا أن نبني المباني بطين اللبن أو بالقش أو بالطوب أو بالخشب، ويمكننا استبدال جزء من الرمل بنشارة الخشب وتصنيع خرسانة خفيفة جداً تطفو على الماء، وهذه المواد ليست جيدة لبناء جسر مثلاً، لكن يمكن أن تكون جيدة لبناء جدار صغير، كما يمكنك استرجاع رماد القاع من حرق النفايات لإعادة استخدامه كبديل للرمل، وهذا ما يجعل منه خرسانة صلبة جداً».

وشدد على أن المشكلة هي «أننا نعتمد بشكل كبير على الرمال ولن نتمكن من استبدال 50 مليار طن من الرمال بأنواع أخرى من المواد، لذا فإن الأمر يتعلق بإعادة التفكير في علاقتنا بالرمال».

ووجدت دراسة أجراها باحثون من جامعة رايس أن الجرافين المشتق من فحم الكوك المعدني، وهو منتج يعتمد على الفحم، يمكن أن يعمل ليس فقط كمادة معززة في الإسمنت لكن أيضاً كبديل للرمل في الخرسانة.

وقال جيمس تور أستاذ الكيمياء وعلوم المواد وهندسة النانو في جامعة رايس إنه «قد يكون لهذا تأثير كبير على واحدة من أكبر الصناعات في العالم.. قمنا بمقارنة الخرسانة المصنوعة باستخدام بديل الركام الجرافين مع الخرسانة المصنوعة باستخدام الركام الرملي المناسب، ووجدنا أن الخرسانة لدينا أخف بنسبة 25 في المئة ولكنها بالقوة نفسها».

وقال بول أدفينكولا، أحد خريجي الدكتوراه في جامعة رايس والمؤلف الرئيسي للدراسة: «إن التجارب الأولية التي تم فيها تحويل فحم الكوك المعدني إلى جرافين أسفرت عن مادة تبدو مشابهة في الحجم للرمل».

وأضاف «قررنا استكشاف استخدام الجرافين المعدني المشتق من فحم الكوك كبديل كامل للرمل في الخرسانة، وتظهر النتائج التي توصلنا إليها أنها ستعمل بشكل جيد حقاً».

تُظهر الاختبارات التي تقارن الخرسانة التقليدية مع الخرسانة المصنوعة من مجاميع الجرافين نتائج واعدة، ولا تتطابق الخرسانة القائمة على الجرافين مع الخواص الميكانيكية للخرسانة القياسية فحسب، بل توفر أيضاً نسبة قوة مقارنة بوزن أعلى.

وقالت الدراسة إن هذه التكنولوجيا الجديدة يمكن أن تؤدي إلى ممارسات تنمية حضرية أكثر استدامة، مع إمكانية تقليل الاعتماد على الرمال الطبيعية وخفض انبعاثات الكربون من صناعة الخرسانة.

ويمثل إنتاج الإسمنت، وهو مكون رئيسي للخرسانة، 8 في المئة من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في جميع أنحاء العالم، وفقاً لمركز أبحاث تشاتام هاوس.

وعلاوة على ذلك، يشكل استخراج الرمال، غير المنظم إلى حد كبير، تهديدات خطيرة للأنظمة البيئية النهرية والساحلية.

ووفقاً لبيدوزري، فإن هذا الطلب المتزايد على الرمال، إلى جانب النمو السكاني والتوسع الحضري، هو سبب رئيسي في «أزمة الرمال».

وفي ظل الاعتماد المتزايد على الرمال كمورد طبيعي حيوي للتقدم الحضاري والتوسع العمراني، يواجه العالم الآن تحدياً كبيراً يستلزم التفكير الجاد والعمل المبتكر للحفاظ على هذه المادة الثمينة، ويقول بيدوزري إنه بينما يتزايد الطلب على الرمال بوتيرة لا يمكن للطبيعة مواكبتها، «نجد أنفسنا أمام مفترق طرق حيث يجب إعادة النظر في كيفية استخدامنا واستهلاكنا لهذا المورد».