تستقبل دبي هذا الأسبوع واحدة من أهم الفعاليات العالمية المتعلقة باستشراف وبناء المستقبل، إذ تنطلق القمة العالمية للحكومات لعام 2024 تحت شعار «تشكيل حكومات المستقبل»، لتجمع قادة العالم تحت سقف واحد لمواجهة تحديات الحاضر وتحديد ملامح المستقبل.. وهذا العام، هناك فرصة فريدة لدولة الإمارات ودول مجلس التعاون الخليجي لقيادة النقاش العالمي حول صياغة معالم المستقبل.

يواجه العالم اليوم العديد من التحديات، على رأسها كيفية الموازنة بين التنمية الاقتصادية والحفاظ على البيئة، وتكثر النقاشات حول كيفية تسخير التقنيات المتقدمة التي تزداد قوة كل يوم لتوفير فرص متكافئة للجميع وتعزيز التنمية المستدامة على كوكبنا وخلق مجتمعات عادلة وآمنة.

وفي هذا الإطار، تركز القمة على ثلاثة مجالات رئيسية: التكنولوجيا، والاستدامة، والحوكمة، وتهدف لإيجاد حلول جديدة ونهج دولي تعاوني أكثر قدرة على التعامل مع تحديات اليوم.

الذكاء الاصطناعي.. بين الفرص والتحديات

نعيش اليوم ثورة تكنولوجية هائلة، وفي قلبها الذكاء الاصطناعي الذي بدأ يُحدِث بالفعل تغيرات كبيرة في جوانب عديدة من حياتنا، مع توقعات بتغييرات جذرية في سوق العمل والرعاية الصحية والتعليم.

وبحلول عام 2030، يُتوقع أن يضيف الذكاء الاصطناعي نحو 15.7 تريليون دولار إلى الاقتصاد العالمي، ما يمثل زيادة تصل إلى 14 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفي سوق العمل يُتوقع أن يحل الذكاء الاصطناعي محل نحو 85 مليون وظيفة، لكنه سيخلق في المقابل نحو 97 مليون وظيفة جديدة في قطاعات حيوية مثل الرعاية الصحية والتكنولوجيا والطاقة الخضراء.

وفي مجال الرعاية الصحية، يُتوقع أن تسهم التقنيات القائمة على الذكاء الاصطناعي في تحسين نتائج العلاج وتقليل التكاليف، مع توفير مليارات الدولارات سنوياً عبر تحسين الكفاءة والفاعلية، أما في التعليم فسيغير الذكاء الاصطناعي الطريقة التي نتعلم بها عبر تقديم تجارب تعليمية مخصصة تتناسب مع احتياجات ومستويات كل طالب، ما يجعل أنظمة التعليم أكثر جودة وفاعلية.

ومن المتوقع أن تجمع القمة خبراء بارزين في مجال الذكاء الاصطناعي لمناقشة التحديات والفرص التي يقدمها هذا المجال سريع التطور، من بينهم الرئيس التنفيذي لشركة إنفيديا، التي تعتبر أكبر الشركات المصنعة لشرائح الحاسوب الذكية، والذي يُتوقع أن يستعرض دور هذه الشرائح في تسريع عمليات التعلم الآلي والتطبيقات الذكية، كما سيشارك سام التمان، مؤسس شركة (أوبن إيه آي) التي أطلقت تطبيق (شات جي بي تي)، في النقاشات، موضحاً دور الذكاء الاصطناعي في تغيير طريقتنا في التواصل والحصول على المعلومات، ويشارك بالقمة أيضاً مؤسس المنتدى الاقتصادي العالمي كلاوس شواب، إذ يقدم رؤى مفيدة حول إعادة تأهيل القوى العاملة لـ«وظائف الغد».

وستسلط القمة الضوء على الجوانب الأخلاقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي، وهو عنصر حاسم لتطوير تقنيات مسؤولة ومستدامة، كما تتناول أهمية بناء نظم ذكية فعالة تراعي العدالة والشفافية والخصوصية وتضمن تحقيق التوازن بين الابتكار التكنولوجي والمسؤولية الاجتماعية.

هذا بالإضافة إلى استكشاف كيفية تسخير الذكاء الاصطناعي لحل التحديات الكبرى التي تواجه المنطقة والعالم، بدءاً من التغير المناخي حتى تحسين النظم الصحية والتعليمية، فالهدف هو تحفيز حوار بنّاء يؤدي إلى تعاون دولي موسع يدعم تطوير الذكاء الاصطناعي بطرق تعود بالنفع على البشرية جمعاء.

وهي نقاشات بالغة الأهمية لكل حكومات وشركات العالم، بما في ذلك دول مجلس التعاون الخليجي التي تبنت استراتيجيات طموحة لتحقيق الريادة في مجال الذكاء الاصطناعي.

وبالنسبة لتلك الدول، تمثل القمة أكثر من مجرد فرصة للحضور؛ إذ تمثل منصة لعرض أبرز إنجازاتها في مجالات الابتكار، مع البحث عن شراكات استراتيجية لمواجهة التحديات العالمية الرئيسية، وفي مقدمتها الحاجة الماسة للتنويع الاقتصادي، وهي أولوية لتلك الدول التي طالما اعتمدت على النفط مصدراً أساسياً للدخل.

فرصة مثالية لدول الخليج

وتمثل الإمارات مثالاً بارزاً على ذلك إذ تشتهر بتفوقها في مجال الابتكار والتكنولوجيا في المنطقة، ويظهر ذلك في العديد من المبادرات والمشاريع مثل مبادرة «الحكومة الذكية» ومدينة مصدر التي تعد أحد أكثر المشاريع استدامة في العالم، وتسعى الإمارات لتصدر مشهد التحول الرقمي والاستدامة على الساحة العالمية.. هذه الجهود لا تعكس فقط التزام الإمارات بالابتكار، ولكنها توفر أيضاً نموذجاً يمكن لدول أخرى في المنطقة والعالم الاحتذاء به.

وفي السعودية، تمثل (رؤية المملكة 2030) خطة طموحة لتحويل الاقتصاد والمجتمع، إذ تركز على ثلاثة محاور رئيسية: مجتمع حيوي، اقتصاد مزدهر، وأمة طموحة، مع التأكيد على أهمية الابتكار والتكنولوجيا كدعائم أساسية لتحقيق هذه الأهداف، وتستثمر المملكة بشكل كبير في التقنيات الجديدة (ومن بينها الذكاء الاصطناعي) لتعزيز قطاعات مثل الصحة والتعليم والطاقة المتجددة، مؤكدة دورها كقوة دافعة للابتكار في المنطقة.

فدول مجلس التعاون الخليجي لديها طموحات واسعة ويمكنها الاستفادة من القمة لتعزيز التعاون الإقليمي، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة والمدن الذكية والحكومة الرقمية، ومن المتوقع أن تشارك مراكز الفكر -مثل معهد الموارد العالمية- في مناقشات حول تعزيز التعاون الإقليمي في مجال الطاقة المتجددة، وهي قضية رئيسية لأهداف الاستدامة لدول مجلس التعاون الخليجي. وعلى الرغم من المنافسة الاقتصادية، يمكن لتلك الجهود التعاونية أن تعود بالنفع على المنطقة بأكملها.

وفي إطار التركيز على المنطقة، يأتي استطلاع أوضاع الحكومات العربية في دورته الثالثة ليسلط الضوء بشكل مكثف على دور الذكاء الاصطناعي في تحويل القطاعات الحكومية وتعزيز كفاءتها وفاعليتها، وتركز هذه الدراسة على كيفية استثمار الحكومات العربية في تقنيات الذكاء الاصطناعي لتحسين الخدمات العامة ودعم صنع القرار.

وأوصت الدراسة بضرورة بناء قدرات الذكاء الاصطناعي داخل الهياكل الحكومية، وتطوير الأطر التنظيمية التي تدعم الابتكار والتزام الأخلاق في استخدام الذكاء الاصطناعي، وتشجيع التعاون بين القطاعين العام والخاص لتسريع التحول الرقمي.

وتسعى الدراسة إلى تقديم مسار واضح لتشكيل حكومات أكثر ذكاءً واستجابة لاحتياجات المواطنين من خلال استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي.

هذه القمة ليست مجرد مؤتمر؛ إنها دعوة للحكومات في جميع أنحاء العالم لتبني التغيير، والاستثمار في المستقبل، والعمل معاً من أجل عالم أفضل.

نبذة عن الكاتب:

د. يسار جرار

خبير في التخطيط الاستراتيجي في مجال الأسواق الناشئة، يتمتع بخبرةٍ طويلةٍ في تطوير القطاع العام وتنمية القطاع التكنولوجي والتعليم. وشريكٌ مؤسسٌ في المجموعة الدولية للاستشارات ( www.iag.sg).

د. جرار زميل في كلية كرانفيلد للإدارة بالمملكة المتحدة، وأستاذ مشارك في كلية هولت للأعمال بالولايات المتحدة، وعضو مجلس الأمناء بكلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية بدولة الإمارات، وزميل في مركز ماستركارد للنمو الشامل- الاقتصاد العالمي بالولايات المتحدة، وعضو مجلس الأمناء بأكاديمية دبي للمستقبل بالإمارات، وشريك أول في مستقبل الحكومات Gov-insights (الشرق الأوسط)، والشريك الإداري بمعهد بوستيرتي بالمملكة المتحدة/ الإمارات العربية المتحدة.

د. جرار كان شريكاً ومديراً لاستشارات القطاع العام في شركة «بين آند كومباني» لمنطقة الشرق الأوسط، وقبلها كان شريكاً في «برايس ووترهاوس كوبرز»، كما ترأَّس مجموعة الشرق الأوسط الاستراتيجية، وعمل مديراً للتخطيط الاستراتيجي في المكتب التنفيذي لصاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في دبي.

وكان العميد التنفيذي المؤسس لكلية دبي للإدارة الحكومية، كما شغل منصب نائب رئيس مجلس مستقبل الحكومات (المنتدى الاقتصادي العالمي).