كشفت بيانات ميزان المدفوعات المصري الصادرة حديثاً بعض ملامح معاملات الاقتصاد المصري مع العالم الخارجي خلال الربع الأول من العام المالي الجاري (الفترة من يوليو تموز إلى سبتمبر أيلول الماضيين).

وميزان المدفوعات هو قائمة تضم إجمالي المعاملات المالية التي ينفذها بلد ما مع البلدان الأخرى في فترة زمنية محددة.

وحقق ميزان المدفوعات المصري فائضاً كلياً بلغ 523.5 مليون دولار خلال الربع الأول من العام المالي الجاري مقابل 311.4 مليون دولار خلال الفترة ذاتها في العام المالي السابق.

وتشير البيانات الرئيسية في الميزان إلى تحسن عجز حساب المعاملات الجارية بمعدل 20.2 في المئة ليسجل 3.2 مليار دولار مع تحسن الإيرادات السياحية وحصيلة الصادرات السلعية البترولية وغير البترولية بجانب تصاعد حصيلة رسوم المرور في قناة السويس.

ويشمل حسابُ المعاملات الجارية الميزانَ التجاري الذي يعبِّر عن الفارق بين الصادرات والواردات، والميزان الخدمي الذي يرصد متحصلات الدولة ومدفوعاتها من الخدمات مثل السياحة والنقل، بالإضافة إلى التحويلات ومنها تحويلات العاملين بالخارج.

وقال هاني جنينة، الخبير الاقتصادي والمحاضر بالجامعة الأميركية بالقاهرة لـ«CNN الاقتصادية» إن أسباب انخفاض العجز في ميزان المعاملات الجارية بعضها مستدام والبعض الآخر غير مستدام.

ويعود السبب الرئيسي لانخفاض العجز إلى زيادة الصادرات غير البترولية وتعافي السياحة وتحجيم الواردات، وفقاً لجنينة.

وتظهر البيانات أن صادرات مصر غير البترولية بلغت 6.3 مليار دولار بزيادة 5.1 في المئة خلال الربع الأول من العام، بينما ارتفعت متحصلات السياحة لتسجل 4.1 مليار دولار بزيادة 43.5 في المئة مقارنة بالفترة نفسها من العام المالي الماضي.

وسجلت الواردات غير البترولية تراجعاً بلغ 9.9 في المئة لتبلغ 15.3 مليار دولار في الربع الأول من العام المالي الجاري.

ويتوقع جنينة أن يستمر زخم ارتفاع الصادرات المصرية وتعافي ميزان الخدمات الذي يضم السياحة وإيرادات قناة السويس خلال الفترة المقبلة، لكن في المقابل ستشهد الواردات ارتفاعاً تدريجياً مع إلغاء نظام الاعتمادات المستندية الذي حدّ من الواردات خلال الفترة الماضية.

ما الذي تخبرنا به الأرقام؟

تشير البيانات الفرعية لميزان المدفوعات إلى تراجع كبير في أحد أكبر مصادر العملة الصعبة لمصر، وهو تحويلات العاملين المصريين في الخارج التي حققت رقماً قياسياً في العام المالي الماضي بلغ 31.9 مليار دولار.

وانخفضت التحويلات بنسبة 20.9 في المئة لتسجل نحو 6.4 مليار دولار.

وتوقعت ورقة بحثية من «إس آند بي غلوبال ماركت انتليجنس» في يناير كانون الثاني الماضي انخفاض تحويلات العاملين في الخارج خلال فترة الأشهر الستة المقبلة، إذ ستُثني المخاوف بشأن استمرار ضعف الجنيه المصري مقابل الدولار، المصريين عن تحويل الأموال عبر القنوات الرسمية.

وقالت الورقة: «هذا الوضع يجب أن يتحسن بمجرد تعديل سوق الصرف»، مشيرة إلى أن المصريين المغتربين سيعودون لاستخدام القنوات الرسمية، على أن ترتفع التحويلات بقوة خلال العام الجاري.

لكن كالي ديفيس، الاقتصادية في «أكسفورد إيكونوميكس إفريقيا» والمتخصصة في متابعة اقتصادات مصر والمغرب والجزائر، تقول إن التحويلات المالية المصرية تنبع إلى حد كبير من العاملين في دول الخليج، وبالتالي تخضع لديناميكيات سوق النفط والغاز.

وأضافت لـ«CNN الاقتصادية» أنه «مع انخفاض أسعار النفط والغاز العالمية عن المستويات المرتفعة التي وصلت إليها في العام، نتوقع أن نشهد ضعفاً في الطلب على العمال على منصات النفط والغاز، وهو ما ينبغي أن ينعكس في انخفاض تدفقات التحويلات المالية في الأشهر المقبلة».

مدفوعات أكبر في الخارج

وفقاً للبيانات فإن مدفوعات السفر للخارج سجلت ارتفاعاً بلغ 93 في المئة خلال الربع الأول من العام ليبلغ 1.59 مليار دولار، لتستمر في الارتفاع الذي بدأته العام المالي الماضي.

ومدفوعات السفر تشير إلى قيمة ما ينفقه المسافر لفترة زمنية محددة خارج مصر على السلع والخدمات، وهي عكس متحصلات السفر التي تعرف بإيرادات مصر من السياحة.

ترى كالي ديفيس أن «الزيادة في مدفوعات السفر قد تعكس الطلب المتزايد على السفر عالمياً مع تخفيف قيود كورونا، ومع ذلك، فإن ضعف الجنيه المصري مقابل الدولار من شأنه أن يجعل السفر إلى الخارج أكثر كُلفة بالنسبة للمصريين».

تضيف ديفيس: «لذلك من المثير للاهتمام أن مدفوعات السفر شهدت مثل هذه القفزة».

ولمح البنك المركزي المصري إلى وجود زيادة مطّردة في استخدامات ببطاقات الائتمان خارج مصر، ما دفعه إلى تنفيذ إجراءات لتقيد السحب والشراء بالبطاقات البنكية خارج مصر.

وقال “المركزي” في بيان ديسمبر كانون الأول الماضي، «لاحظنا وجود زيادة مطّردة في الاستخدامات الخاصة ببطاقات الائتمان وبطاقات الخصم المباشر خارج البلاد»، مضيفاً أن العمليات «بلغت ذروتها لتصل إلى 55 مليون دولار في يوم واحد بزيادة تقدر بأكثر من خمسة أضعاف على المتوسط اليومي في الربع الأخير من عام 2021».

وجاءت هذه الإجراءات بهدف السيطرة على السوق الموازية للعملة والتي نشطت بشدة في الشهور الماضية.

وقبل تعويم الجنيه في نوفمبر تشرين الثاني 2016 لجأ “المركزي” للإجراء نفسه مع زيادة مدفوعات البطاقات الائتمانية في الخارج وقتها وارتفاع مدفوعات السفر.

الاستثمار الأجنبي المباشر

تشير البيانات إلى قفزة كبيرة في الاستثمار الأجنبي المباشر في مصر خلال الربع الأول لتسجل 3.3 مليار دولار بزيادة 94 في المئة مقارنة بالفترة المقابلة من العام المالي الماضي.

يرجع “المركزي” هذه الزيادة إلى تصاعد الاستثمارات الأجنبية المباشرة الواردة لقطاعات غير بترولية نتيجة لارتفاع حصيلة بيع شركات وأصول إنتاجية لغير المقيمين بنحو مليار دولار، وتأسيس شركات جديدة، وزيادة رؤوس أموال قائمة بنحو مليار دولار.

وتشير وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني، إلى أن «تحسين القدرة التنافسية للأسعار وتنفيذ إصلاحات بيئة الأعمال من شأنهما أن يدعما تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر الوافدة التي ستعزز القدرة على تحمل الدين الخارجي للاقتصاد وتُقلل مخاطر الضعف الخارجية للاقتصاد بشكل مستدام».

نزوح الأموال الساخنة

واصلت الاستثمارات في محفظة الأوراق المالية في مصر تحقيق صافي تدفق للخارج بلغ 2.16 مليار دولار هو الأمر الذي بدأ منذ النصف الأول من العام المالي الماضي.

وتعرف استثمارات محفظة الأوراق المالية بالأموال الساخنة، وتسمى ساخنة لأنها تدخل سريعاً وتخرج سريعاً.

ويقول البنك المركزي إن هذا التخارج يعكس قلق المستثمرين على إثر اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، هذا بالإضافة إلى السياسات النقدية الانكماشية التي ينتهجها “الفدرالي الأميركي” والتي تؤدي بدورها إلى نزوح الأموال الساخنة من الأسواق الناشئة.

لكن استمرار تخارج الأموال الساخنة خلال الربع الأول من العام استمر في الضغط على البنوك التجارية في مصر على الأخص، بحسب هاني جنينة.

وأضاف أن صافي مطلوبات العملة الأجنبية لدى البنوك المصرية ارتفع بنحو 2.25 مليار دولار خلال الربع الأول لتمويل استردادات المبلغ نفسه تقريباً من قبل المستثمرين الأجانب، نظراً للتخارج من الأسواق الناشئة والذي استمر تقريباً حتى منتصف أكتوبر تشرين الأول الماضي.