«أعيش في كابوس، أريد أن أستيقظ لكنني عاجز، أحاول أن أقنع نفسي بأن غداً أفضل أو بعد غد، ولكن أشعر أن لا نهاية للذي أعيشه».

صرخة الألم تلك يطلقها فادي فخر، صاحب متجر بقالة صغير بمنطقة كورنيش المزرعة في بيروت.

فادي واحد من ملايين اللبنانيين الذين يكابدون ويلات أزمة اقتصادية غير مسبوقة، هي الأشد منذ أن وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها في عام 1990، ووصفها البنك الدولي بأنها من بين أسوأ ثلاث أزمات اقتصادية شهدها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر.

انقلبت حياة فادي رأساً على عقب بعد أن بدأ انهيار الليرة اللبنانية أواخر عام 2019.

كان فادي يبيع السلع في متجره بأسعار مثبتة مقابل الدولار، لكنه يعيش اليوم في «ضغط نفسي مستمرّ» كونه يضطر لشراء السلع وبيعها في ظلّ تقلبات حادّة ومستمرة في قيمة العملة.

خسرت الليرة اللبنانية نحو 98 في المئة من قيمتها مقابل الدولار الأميركي على مدار السنوات الأربعة الأخيرة.

«ليست سوى ورق»، هكذا يصف فادي العملة اللبنانية، بعد أن أجبره تراجع قيمتها، شأنه شأن غيره من اللبنانيين إلى وقف تأمينه الصحيّ، والاستغناء عن ضروريات.

أزمة لبنان قد تكون الأشد، لكنها ليست الوحيدة في المنطقة العربية، التي بات صندوق النقد الدولي ضيفاً دائماً على اجتماعات مسؤولي عدد من دولها.

تأمل هذه الدول، مصر وتونس ولبنان، في الخلاص من مشكلات اقتصادية متفاوتة، تؤثر على الحياة اليومية للمواطنين، عبر الاتفاق مع الصندوق على إصلاحات اقتصادية مقابل الحصول على قروض.

بدأت مصر بالفعل في تنفيذ برنامج جديد، ليس الأول لكنها تأمل أن يكون الأخير، وتنتظر خلال أيام مراجعة هي الأولى للبرنامج الأحدث من الصندوق.

أما تونس فتنتظر منذ ستة أشهر موافقة المجلس التنفيذي للصندوق على قرضها الجديد، بينما توصل لبنان إلى اتفاق مبدئي على قرض لكنه لم يشرع بعد في تنفيذ أي من الإصلاحات الضرورية للحصول عليه.

في السطور التالية نتعرف عن قرب على قصص الدول العربية الثلاثة مع الصندوق.

مصر.. خفض جديد للعملة وقرض جديد من الصندوق

تدخل مصر خلال أيام مراجعة هي الأولى لبرنامجها الجديد مع صندوق النقد، والبالغ قيمته ثلاثة مليارات دولار على مدار 46 شهراً.

اتفقت مصر في البرنامج على تنفيذ إصلاحات اقتصادية، تضمن مرونة أكبر في سعر الصرف وخفض التضخم وبيع حصص من شركات حكومية إلى مستثمرين أجانب، وإفساح المجال لمزيد من مشاركة القطاع الخاص في الاقتصاد.

حصلت مصر على شريحة أولى من القرض في يناير كانون الثاني الماضي بقيمة 347 مليون دولار، ويعني اجتيازها المراجعة الأولى الحصول على شريحة ثانية بالقيمة نفسها من الصندوق.

وسيعلن عن موعد زيارة بعثة صندوق النقد قريباً بالاتفاق مع السلطات المصرية، حسبما قال المكتب الإعلامي للصندوق رداً على أسئلة من «CNN الاقتصادية».

وبحسب علي متولي، باحث مساهم لقسم الشرق الأوسط بوحدة الاستخبارات الاقتصادية لدى «إي آي يو»، فإن المراجعة ستركز على التقدم الذي أحرزته مصر، وهل نفذت القاهرة الإصلاحات التي تعهدت بها أم لا.

خفضت مصر عملتها المحلية أكثر من مرة خلال الفترة الماضية تماشياً مع متطلبات الصندوق، كما رفعت الفائدة وأصدرت شهادات ادخار مرتفعة العائد لمكافحة التضخم.

ويعاني البلد نقصاً حاداً في العملة الصعبة، دفعه لخفض الجنيه مراراً حتى تخطى سعره 30 جنيهاً للدولار، بينما بلغ في العقود الآجلة أكثر من 40 جنيهاً.

تخفيضات العملة الأحدث ليست الأولى في إطار برنامج تبرمه مصر مع صندوق النقد الدولي، فقد ترافق اتفاق 2016 السابق مع خفض حاد لقيمة الجنيه آنذاك.

وتكابد مصر كذلك موجة غلاء، إذ ارتفع التضخم السنوي في المدن إلى 31.9 في المئة في فبراير شباط الماضي، وهو أعلى مستوى له منذ خمس سنوات.

وقال صندوق النقد لـ«CNN الاقتصادية» إن توقعات التضخم في مصر تعتبر صعبة، وتتطلب سياسات صارمة وشبكات أمان اجتماعي قوية.

ويتبقى لمصر الإسراع في بيع حصص من شركات حكومية إلى مستثمرين أجانب؛ ما سيوفر لها سيولة تشتد الحاجة إليها، إذ تعهدت لصندوق النقد ببيع أصول بقيمة 2.5 مليار دولار بحلول يونيو حزيران 2023.

ووفقاً لمتولي، فإن الأصول المملوكة للدولة لا تزال تخضع للتقييم، حتى تحقق مصر أقصى استفادة من عملية البيع.

وقال «لا تريد الحكومة أن تخسر من بيع الأصول».

وقبل أسابيع قليلة، عرقل الاتفاق على تقييم سعر عادل صفقة بيع «المصرف المتحد» إلى «صندوق الاستثمارات العامة»، صندوق الثروة السيادي السعودي.

كان البنك المركزي المصري، الذي يملك حصة أغلبية في البنك، يريد تقييمه بالدولار الأميركي، بينما كانت رغبة صندوق الاستثمارات العامة تقييمه بالجنيه المصري، ما أفشل الصفقة.

ويرى صندوق النقد أن مصر بحاجة لتنفيذ صارم لجميع جوانب البرنامج لضمان الاستقرار الاقتصادي مع عودة تدريجية إلى معدلات تضخم منخفضة، بما في ذلك مرونة دائمة في سعر الصرف.

ويوصي الصندوق مصر بأن تكبح وتيرة تنفيذ المشاريع القومية الكبيرة بهدف الحد من الضغوط على سوق الصرف الأجنبي والتضخم.

الأزمة المصرية نتجت عن شح في النقد الأجنبي من جراء الحرب الروسية الأوكرانية التي رفعت أسعار الحبوب العالمية -مصر أكبر مستورد للقمح في العالم- وأثرت سلباً على إيرادات السياحية.

لبنان.. اتفاق مبدئي يراوح مكانه

يعيش لبنان أوضاعاً اقتصادية صعبة منذ 2019، دفعت الليرة لانهيار تاريخي مع تجاوز سعر الصرف عتبة 140 ألفاً للدولار، لتخسر قرابة 98 في المئة من قيمتها.

وفي محاولة لتصحيح الأوضاع، توصل لبنان منذ نحو عام لاتفاق مبدئي مع صندوق النقد على خطة دعم بثلاثة مليارات دولار على أربع سنوات، بشرط تنفيذ إصلاحات اقتصادية جذرية، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ بعد.

تعين على لبنان تنفيذ إصلاحات وسن مشاريع قوانين عاجلة في البرلمان، أبرزها قانون «الكابيتال كونترول» الذي يقيد عمليات السحب وتحويل العملات الأجنبية من البنوك، إضافة إلى إقرار تشريعات تتعلق بإعادة هيكلة القطاع المصرفي وتعديل قانون السرية المصرفية.

تأتي هذه الإصلاحات في ظل أزمة سيولة حادة وقيود مصرفية مشددة يفرضها لبنان على مواطنيه وفي وقت وصلت فيه نسبة الفقر إلى 85 في المئة، بحسب «هيومان رايتس ووتش»، وفي وقت أخفق فيه مجلس النواب اللبناني 11 مرة في انتخاب رئيس للدولة جراء انقسامات سياسية عميقة.

ويزيد الشلل السياسي الوضع سوءاً، في ظل عجز حكومة تصريف الأعمال عن اتخاذ قرارات ضرورية، من بينها الإصلاحات التي يشترطها المجتمع الدولي وصندوق النقد لتقديم الدعم من أجل وقف نزيف الاقتصاد اللبناني.

لكن يبدو أن «التقاعس عن اتخاذ إجراءات مطلوبة قد يُدخل البلاد في أزمة لا نهاية لها، إذ إن لبنان في لحظة خطيرة للغاية وعند مفترق طرق»، حسبما قال رئيس بعثة الصندوق، أرنستو راميريز ريغو، في بيان.

ويتفق سامي نادر، مدير مركز «ليفنت» للدراسات، مع هذا الرأي ويقول «لا خيار للبنان غير الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، ولا مفر من تطبيق الاتفاقية كونها مفتاح المساعدات الدولية».

ويضيف في تصريحات لـ«CNN الاقتصادية» أن الشركاء الدوليين غير مستعدين للاستثمار في لبنان في غياب إدارة دولية موثوق بها مثل صندوق النقد، كونه الضامن الوحيد لتطبيق الإصلاحات.

وتابع «لبنان ليس بحاجة لأموال صندوق النقد الدولي بقدر ما هو بحاجة إلى شروط صندوق النقد بتطبيق الإصلاحات من أجل منحه التمويل المطلوب».

ويبدو أن صندوق النقد هو الجهة الوحيدة القادرة على فرض تدقيق مالي وجنائي لوضع المالية العامّة ولوضع مصرف لبنان المركزي، وفقاً لنادر.

ويشهد لبنان منذ 2019 انهياراً اقتصادياً صنّفه البنك الدولي من بين أسوأ الأزمات في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، وهو الأسوأ في تاريخ البلاد.

ورغم هذه الأوضاع، يقول رئيس بعثة صندوق النقد إن «اللبنانيين أحرزوا تقدماً بطيئاً جداً بالنظر إلى مدى تعقيد الوضع».

ويتوقع نادر أن يتجه لبنان نحو نموذج فنزويلا في ظلّ أزمة الدولرة الشاملة وغياب الإصلاحات وانهيار العملة الوطنية وانهيار القطاع المصرفي واحتياطيات البنك المركزي.

تونس.. معارضة عمالية تعرقل قرض الصندوق

اتفقت تونس مع صندوق النقد الدولي في أكتوبر تشرين الأول 2022 على برنامج بقيمة 1.9 مليار دولار على مدار أربع سنوات، وكان من المقرر أن يناقش المجلس التنفيذي للصندوق البرنامج في ديسمبر كانون الأول الماضي، لكن السلطات التونسية طلبت تأجيل المناقشة دون إبداء أسباب.

وقال الصندوق لـ«CNN الاقتصادية» إن التأجيل جاء لمنح السلطات التونسية مزيداً من الوقت لاستكمال متطلبات برنامج الإصلاح الاقتصادي.

اتفقت تونس على القرض مقابل توسيع قاعدة الضرائب وتقليل فاتورة الأجور في قطاع الخدمة المدنية وإصدار قانون لإصلاح الشركات المملوكة للدولة والاستمرار في رفع الدعم مع توسيع شبكة الأمان الاجتماعي، وهي متطلبات لم تلقَ في مجملها ترحيباً من الاتحاد التونسي العام للشغل، النقابة العمالية ذات النفوذ.

ويرى أمين بوزيان، الباحث المستقل في السياسيات الضريبية والمالية بتونس، أنه بحلول موعد اجتماع المجلس التنفيذي للصندوق كانت تونس لا تزال غير جاهزة لتنفيذ هذه الإصلاحات، ما دفعها لطلب تأجيل الاجتماع.

وبحسب بوزيان، فإن تونس حتى الآن لم تشرع في إصدار قانون لإصلاح الشركات المملوكة للدولة إذا أبلغت الصندوق أنها تحتاج إلى بعض الوقت حتى تتوافق عليه محلياً.

في المقابل شرعت تونس في استمرار رفع الدعم، إذ تظهر موازنة عام 2023 أنها تخلت عن 25 في المئة من الميزانية المرصودة له، تجسيداً لاتفاقها مع صندوق النقد.

وتعاني تونس خللاً مالياً منذ أزمة كورونا وهو ما استمر مع اندلاع الحرب الأوكرانية، ما دفع التضخم لأعلى مستوى منذ ثلاثة عقود، إذ سجل في فبراير شباط 10.4 في المئة.

وأقدمت الحكومة التونسية على رفع أسعار المحروقات أكثر من مرة منذ العام الماضي، ما ساهم في ارتفاع التضخم.

ويقول بوزيان إن على تونس توفير 25 مليار دينار تونسي (نحو 8.2 مليار دولار) من الاقتراض في ميزانية العام الجاري، منها عشرة مليارات دينار من الاقتراض الخارجي.

وسيوفر الاتفاق مع صندوق النقد بعض الأموال التي تحتاج إليها تونس، كما سيفتح باباً للحكومة التونسية لإبرام اتفاقات ثنائية مع دول الاتحاد الأوروبي التي تربط مساعدتها بالتوصل لاتفاق مع صندوق النقد.

وسيكون تحديد موعد جديد لمناقشة القرض أمراً ملحاً في وقت سجلت فيه الموازنة التونسية عجزاً بلغ عشرة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العام الماضي، وتأمل أن يتراجع العجز هذا العام إلى 5.5 في المئة.

ويقول الصندوق إن إدراج تونس على جدول اجتماعات مجلسه التنفيذي سيكون بالتشاور مع السلطات التونسية، فور تحقيق المتطلبات.

وأوضح أنه «سيظل شريكاً قوياً لتونس وسيواصل دعم السلطات في جهودها الإصلاحية».