من رحم المعاناة والصدمات النفسية والاجتماعية للعام الثالث على التوالي، ولد صمود أهالي بيروت، فمنذ 3 أعوام هز انفجار عات أركان العاصمة اللبنانية، مخلفاً تداعيات سياسية واقتصادية وإنسانية، وغداً تحل الذكرى الثالثة للانفجار المرعب الذي سبب جراحاً لا يداويها طبيب، في دولة طالما وصفت بالتحرر والحداثة والطبيعة الخلابة أو «سويسرا الشرق”.
«تفجير بهذا الحجم يجب ألّا يُدفن مع مرور الوقت.. فبعد ثلاث سنوات على انفجار مرفأ بيروت، ما زلنا نستجدي الحقيقة والعدالة كأننا في اليوم الأول من التفجير»، هذا ما جاء على لسان عدد من أهالي ضحايا انفجار مرفأ بيروت في المؤتمر الصحفي الذي عُقد منذ أيام لدعوى تضامنية لذكرى 4 أغسطس آب تحت عنوان «كي لا ننسى».
ويعتبر العديد من أطباء النفس في لبنان أن تحقيق العدالة شرط أساسي للشفاء من جروح تبعات الانفجار على المستوى النفسي، لا سيّما وأن الانفجار ارتبط ب أزمات لبنان الاقتصادية والنقدية والضغوط الاجتماعية والمالية والنفسية التي تعرض لها الشعب اللبناني إبان جائحة كورونا.
وبعد مرور ثلاث سنوات على الفاجعة، لا يزال اللبنانيون ينتظرون استكمال التحقيق من جهةٍ، والضلوع ببرنامج وطني يُقيّم الاحتياجات الأساسية للمتضررين من جهةٍ أخرى.
«فحتى اليوم لا يوجد مركز بيانات مركزي يراقب تدفق المساعدات»، وفق ما أعرب عنه جوليان كورسون المدير التنفيذي لـ«الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافيّة – لا فساد » لـ«CNN الاقتصادية».
وأضاف كورسون «أن غياب مركزية البيانات كان إحدى الثغرات الأساسية لمراقبة شفافية وفاعلية المساعدات من الدول المانحة والجمعيات الخيرية والمنظمات غير الحكومية والاغتراب اللبناني والتي لولاها لكان الوضع أكثر سوءاً».
فاعلية وشفافية المساعدات
وأظهرت نتائج الاستبيان الذي أجرته «الجمعية اللبنانية لتعزيز الشفافية»، بالتعاون مع «مركز مراقبة الأزمات» في الجامعة الأميركية ببيروت في بداية ونهاية عام 2022، أن 50 في المئة من المستفيدين لا يزالون بحاجة إلى المساعدات وأن نسبة الذين اعتبروا أن هذه المساعدات لا تلبي الحاجات أو الأولويات نمت من 48 في المئة في بدايات العام الماضي إلى 68 في المئة في نهايته، ما ينذر بأن الوضع يشتد سوءاً.
وأضاف كورسون أنه تم توثيق عدة انتهاكات لاختلاسات على صعيد الحالات الفردية الخاصة، مرجحاً إمكانية أن يكون قد تم استخدام الأغراض الإنسانية لمآرب شخصية ملقياً بالمسؤولية على عاتق الدولة التي تخاذلت عن لعب دور المنسق لضمان فاعلية وشفافية هذه المساعدات.
ومن ناحيته، قال حسن منيمنة، الأستاذ الجامعي والخبير الدولي في شؤون التنمية، لـ«CNN الاقتصادية»، إن فاعلية هذه المساعدات كانت في حدود الخدمات الطارئة لإيقاف نزف جريح وليس لمداواته على المدى الطويل، لا سيّما وأنه لم تكن هناك دراسة حالة لحاجات المتضررين سواء المباشرة أو على صعيد أوسع.
فيما أعربت الطبيبة النفسية مايا بزري لـ«CNN الاقتصادية»، أن الصدمات الجماعية تظهر مرحلة «شهر العسل» على حد وصفه، وهي وفق التعريف العلمي لها الفترة التي يظهر فيها الأفراد والمجتمعات تضامناً على المستوى المعنوي والمادي لمقاومة آثار الصدمة، وهذا ما حصل فعلاً بعد انفجار «مرفأ بيروت»، حيث تكثفت المساعدات المعنوية والمادية، التي شكّلت حلاً مؤقتاً دونه برنامج حقيقي طويل المدى، يلاحظ حلولاً فعّالة للمشكلات التي تظهر مع مرور الزمن.
الصحة النفسية أولاً
ولفتت البزري إلى ريادة لبنان في الاهتمام بالصحة النفسية، حيث كان من بين الدول الأولى في إنشاء الخط الساخن للعلاج النفسي منذ فترة طويلة وتطبيق البرنامج الوطني للصحة النفسية.
وأشادت بجهود المنظمات غير الحكومية في دمج الإسعافات النفسية الأولوية بمراكز الاستشفاء كافة، وصولاً إلى المناطق النائية رغم شح الموارد الأولية، ما يجعل فاعلية عمل هذه المنظمات تقتصر على المديين القصير والمتوسط.
وشددت البزري على نجاح برنامج تمكين الجهاز الطبي في تقديم خدمات الإسعاف النفسي الأولي رغم أن القطاع الاستشفائي يعاني من هجرة الكفاءات والأطباء النفسيين وغياب أدوية العلاج النفسي الأساسية.
ووصف منيمة لغط مفهوم معالجة الصدمات مع عودة المتضررين إلى منازلهم بالعلاج السطحي لآثار الصدمة، داعياً إلى ضرورة إنشاء مركز وطني لمعالجة الصدمات.
تغيير في النسيج الاجتماعي
ولفت كورسون إلى أن العقارات السكنية في المنطقة الحدودية لمرفأ بيروت لديها إشكالية خاصة تابعة لقانون الإيجار القديم وغالبية ساكني هذه المناطق لا تسمح أوضاعهم الاقتصادية باستئجار المنازل وفق قانون الإيجار الجديد، لافتاً إلى أن ليس هناك الكثير من المعطيات التي تسمح ببلورة رؤية شاملة لهذه الإشكالية.
وأضاف منيمة «مع تردي الوضع الاقتصادي، فإن هناك تغييراً ديموغرافياً حقيقياً بطبيعة سكان المناطق المتاخمة لمرفأ بيروت الذين شهدوا هجرة داخلية وخارجية في ظل غياب خطة عودة حقيقية، الأمر الذي غيّر معالم هذه المنطقة ووجهتها».
فبعض مالكي الأبنية رفضوا الاستمرار بعقود الإيجار القديمة بعد ترميم الأبنية وإصلاحها وحولوا هذه المساكن إلى «بيوت عطلات»، أو عقود إيجار مع مؤسسات دولية تدفع عقد الإيجار لموظفيها بالدولار، حسبما أعرب منيمة، لافتاً إلى أن أكثر المتضررين هم المتقدمون في السن الذين خسروا كل شيء حتى أماكن ذكرياتهم.