أثارت مطالبة إسرائيل سكان شمال غزة بالانتقال نحو جنوبها خلال 24 ساعة مخاوف أممية ودولية واسعة خشية تفاقم الأوضاع الاقتصادية والإنسانية المأساوية بالقطاع.
فبعد مرور نحو أسبوع على الهجوم الذي شنّته حركة حماس على إسرائيل، طالب الجيش الإسرائيلي سكان شمال غزة، البالغ عددهم نحو 1.1 مليون شخص، بإخلاء القطاع والتوجه إلى جنوب المدينة خلال 24 ساعة.
وبين أوامر الجيش الإسرائيلي للسكان بالإخلاء ودعوات حماس لهم بعدم مغادرة منازلهم، يبقى مصير القطاع مجهولاً.
انهيار اقتصادي كامل
يحذّر المحللون من أن التصعيد الأخير في غزة قد يدفع اقتصاد القطاع المتردي بالفعل لحافة الانهيار، فغزة لديها واحد من أعلى معدلات البطالة في العالم، إذ تجاوز معدل البطالة بها 45 في المئة، بينما يزداد المعدل بشكل أكبر بين الشباب ليصل إلى 70 في المئة، بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني.
فقبل الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، كان سكان غزة يعتمدون بشكلٍ أساسي على فرص العمل المتاحة في السوق الإسرائيلية، لكن الحصار المفروض على القطاع منذ مطلع الألفية حدّ من قدرة السكان على الوصول لتلك الفرص.
وخشية انفجار الأوضاع في غزة، أصدرت إسرائيل مؤخراً أكثر من 18 ألف تصريح عمل للسكان، ما زاد الدخل الذي يدرونه بنحو مليوني دولار يومياً، فالعامل الذي يكسب في المتوسط 7-9 دولارات يومياً في غزة، يمكنه تحقيق 10 أضعاف هذا الربح من خلال العمل في إسرائيل.
ولا تقتصر القيود على الأفراد فقط، بل تمتد للشركات أيضاً، إذ تفرض الحكومة الإسرائيلية قيوداً على واردات وصادرات القطاع خشية استخدامها للأغراض العسكرية، ويشمل ذلك واردات الأسمنت والقضبان الحديدية.
وخففت إسرائيل قبضتها نسبياً على حركة التجارة بقطاع غزة لتشهد أكبر انتعاش لها منذ عام 2007، وسجلت عائدات قطاع الملابس، الذي يُعد أحد أهم المجالات الاقتصادية في غزة، ارتفاعاً بنحو 10 أضعاف منذ عام 2015، ما أثار التفاؤل بتحسن الأوضاع المعيشية للسكان، لكن التصعيد الأخير وجّه ضربة قاسية لتلك الآمال.
وعلى الرغم من تخفيف القيود التجارية، تظل الشركات معرضة لتعطل أعمالها في أي وقت، إذ تحتفظ الحكومة الإسرائيلية لنفسها بالحق في إعادة القيود على المعاملات التجارية في أي لحظة.
على سبيل المثال، فرضت إسرائيل الشهر الماضي حظراً مؤقتاً على صادرات غزة بعد الكشف عما وصفته بمحاولات لتهريب متفجرات إلى الضفة الغربية، وأعقبت ذلك بغلق الممرات التي يستخدمها العمال للوصول لمقار عملهم في إسرائيل والضفة.
تردى الوضع الاقتصادي أحد محركات التصعيد
يعيش نحو 2.3 مليون شخص في شريط غزة الضيق البالغة مساحته 141 ميلاً (365 كيلو متراً)، ووفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، يُقدّر دخل الفرد في القطاع بأقل من نصف نظيره في الضفة الغربية، بينما يعيش أكثر من نصف سكانه تحت خط الفقر.
ويرى المحللون أن الأوضاع الاقتصادية المتردية بالقطاع كانت أحد المحركات الرئيسية للتصعيد الأخير من جانب حماس، خاصة أن هذا التصعيد سبقته سلسلة طويلة من الاحتجاجات من جانب سكان القطاع أكثرهم من الشباب.
وأشاروا إلى أنه على الرغم من أن بعض مطالب حماس سياسية، فإن تخفيف القيود الاقتصادية المفروضة على غزة يُعد شرطاً رئيسياً للحفاظ على استقرار الأوضاع بالقطاع.
وفي حديث مع وكالة رويترز في وقت سابق هذا الشهر، حذّر مسؤول إسرائيلي رفيع المستوى، رفض ذكر اسمه، من أن الاحتجاجات الأخيرة يعود سببها للمعاناة الاقتصادية في غزة أكثر من المشاعر الوطنية المرتبطة بالقضية الفلسطينية.
وقال المسؤول «الاحتجاجات سببها المال.. وما نراه على الحدود ما هو إلا رسالة.. إنهم يطلبون المساعدة المالية»، في إشارة إلى احتجاجات سكان غزة التي سبقت هجوم حماس في السابع من أكتوبر تشرين الأول.
تخلف قطاع غزة عن الضفة
وفي تقرير حديث له، لفت صندوق النقد الدولي إلى أن قطاع غزة تخلف بشكلٍ كبير عن الضفة الغربية على مدار الأعوام الخمسة عشر الماضية نتيجة العزلة المفروضة على القطاع والصراعات المتكررة منذ صعود حماس إلى السلطة في عام 2007، مشيراً إلى أن 77 في المئة من الأسر في غزة تعتمد على المعونات الغذائية والنقدية.
فحركة حماس نفسها تواجه سخطاً متزايداً من قِبل سكان القطاع بشأن سياساتها الاقتصادية التي قفزت بمعدل البطالة لمستويات قياسية قاربت الـ50 في المئة، في الوقت الذي تعزو فيه الحركة المعاناة الاقتصادية للقطاع إلى الحصار الإسرائيلي الطويل.
تبعات إنسانية «مدمرة»
في عام 2023، كشف مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا) أن 58 في المئة من سكان قطاع غزة يحتاجون إلى مساعدات إنسانية، بينما تضاعف عدد الأسر التي تعيش في أوضاع متردية أو كارثية بنحو ثلاثة أمثال ليصل إلى 29 في المئة مقارنة بـ10 في المئة عام 2022.
وحذّر المكتب من أن 1.3 مليون شخص في القطاع يحتاجون إلى مساعدات غذائية عاجلة، في حين كشفت هيئة المياه الفلسطينية أن 90 في المئة من موارد المياه في غزة غير صالحة للشرب.
ومن المتوقع أن يؤدي التصعيد الأخير ومطالبة سكان شمال غزة بالاتجاه جنوباً إلى زيادة تردي الأوضاع الإنسانية في القطاع.
في بيان لها يوم الجمعة، وصفت منظمة الأمم المتحدة أمر الجيش الإسرائيلي بإخلاء أكثر من مليون شخص خلال تلك المهلة الوجيزة بـ«المستحيل»، إذ جاء في البيان «ترى الأمم المتحدة أنه من المستحيل تنفيذ تلك الخطوة دون وقوع تبعات إنسانية مدمرة»، محذّرة من أن ذلك ينذر بتحويل «الوضع المأساوي الحالي إلى وضع كارثي».
وفي السياق نفسه قال الأمين العام للمنظمة، أنطونيو غوتيريش «نحتاج إلى ممر إنساني فوري حتى نتمكن من توصيل الوقود والغذاء والمياه لكل من يحتاج إليها.. فحتى الحرب لها قواعد».
وفي حوار مع صحيفة «الباييه» الإسبانية، وصف مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، دعوة إسرائيل لإجلاء 1.1 مليون شخص خلال 24 ساعة بـ«غير المنطقية»، مشيراً إلى أن بعض الردود العسكرية الإسرائيلية تنتهك القانون الدولي، وقال بوريل «لا يمكنك قطع المياه وجميع المرافق عن شعب بأكمله».
في الوقت نفسه، حذّرت منظمة الصحة العالمية من أنه من المستحيل إجلاء الحالات الحرجة بالمستشفيات، واصفة تلك الخطوة بأنها بمثابة «حكم إعدام للمرضى والمصابين»
كما حذّرت المنظمة من أن المستشفيات في غزة على شفا الانهيار مع استمرار تدفق المرضى والمصابين على المستشفيات في جنوب المدينة، مشيرة إلى أن المستشفيين الرئيسيين في الشمال تجاوزا سعتيهما القصوى البالغة 760 سريراً، ومحذّرة من نفاد مخزون الوقود خلال أيام قليلة، ما يهدد بوقف الأجهزة الحيوية الضرورية لإنقاذ المرضى.
وقالت المنظمة «لن يتبق أمامنا الكثير من الوقت لمنع الكارثة الإنسانية، إذا لم يتم إمداد قطاع غزة في الوقت المناسب بالوقود والمياه والغذاء والإمدادات الإنسانية والأجهزة المنقذة للحياة في ظل الحصار الكامل المفروض على القطاع».
وتزامن ذلك مع تحذير وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين (الأونروا) من نفاد مياه الشرب النظيفة من القطاع بعد توقف شبكة المياه الرئيسية عن العمل، محذرة من أن السكان اضطروا لتناول مياه الآبار الملوثة دون تعقيمها، ما يهدد بإصابتهم بأمراض وأوبئة خطيرة.
«لقد أصبحت مسألة حياة أو موت».. هكذا وصف فيليب لازاريني، المفوض العام للأونروا، الوضع المأساوي في غزة مضيفاً «يجب توصيل الوقود الآن إلى غزة لتوفير المياه النظيفة لـ2 مليون شخص».