يشدد الدولار خناقه على العملات المحلية في مصر والعراق ولبنان، وسط تكهنات بانتقال تدريجي ومحدود نحو شرق أوسط جديد على الصعيدين الاقتصادي والسياسي، وفقاً لتصريحات غاربيس أيراديان، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي لمنصة «CNN الاقتصادية».
من جهته استبعد سامي نادر، مدير مركز المشرق للدراسات الاستراتيجية، إمكانية عودة هذه الدول إلى مسار اقتصادي طبيعي على المدى القصير، مشيراً إلى امتداد آثار الأزمات المحلية بتلك الدول إلى جيرانها الإقليميين، واستشهد على ذلك بأزمة العراق التي أثرت على الأردن ولبنان، نظراً لأنهما يستقبلان جزءاً كبيراً من الصادرات والسياحة العراقية.
ومع استمرار الصراع في غزة وأوكرانيا وزيادة التوترات الجيوسياسية الإقليمية والدولية وغموض مستقبل الاقتصاد العالمي، يقع المواطن المصري واللبناني والعراقي تحت وطأة أوضاع معيشية متردية، محاصراً بالغلاء وزيادة معدلات الفقر وغياب فرص النمو، ما يدفع الكثير منهم إلى الهجرة بحثاً عن فرص أفضل.
ضغوط على العملة الوطنية
عزا نادر تقلص موازنات هذه الدول إلى العجز في ميزان المدفوعات وغياب الإصلاحات الأساسية وارتفاع معدلات التضخم العالمية، ما أدى إلى ضغط كبير على العملات المحلية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين وخفض جودة التصنيف الائتماني لهذه الدول.
وأوضح غاربيس أن الفارق الكبير الذي تشهده هذه الدول في أسعار الصرف بين السوقين الرسمية والموازية يشير إلى «انعدام التناسق بين سياسة الاقتصاد الكلي ونظام سعر الصرف»، إذ يصل هذا الفارق إلى نحو 600 في المئة في لبنان، و45 في المئة في مصر، و25 في المئة في العراق.
وأضاف «سعر الصرف الرسمي الذي يكون أقوى بكثير من سعر مقاصة السوق من شأنه أن يقلل من سوق الصرف الأجنبي بين البنوك، ويشجع البحث عن الريع، ويعوق تطوير الأعمال»، مضيفاً أن المطلوب هو تنفيذ إصلاحات شاملة، بما في ذلك السياسات المالية والنقدية الملائمة، فضلاً عن الإصلاحات الهيكلية التي تعمل على توسيع دور السوق في تخصيص الموارد.
شح الدولار أم ضعف العملات المحلية؟
تعاني مصر ولبنان من تدهور قيمة عملتيها المحليتين بسبب نقص توفر الدولار، بعكس العراق الذي لا يعاني من نقص العملة الأجنبية لكن من صعوبة إتاحتها نتيجة القيود المفروضة على التعاملات الدولارية.
«الدولار في العراق موجود، لكنه صعب المنال في ظل سياسات التشديد والقيود الإدارية»، هكذا وصف حسين القراغولي، المدير الإداري لشركة فينكس فاينانس وشركاه، أزمة الدولار في العراق لـ«CNN الاقتصادية»، مشيراً إلى أن العراق اليوم يشهد «وضعاً صعباً».
كان القراغولي مساهماً أساسياً في إعادة الإعمار المالي للعراق بعد الاجتياح الأميركي، إذ شارك في إعادة هيكلة الديون في البلاد من خلال إصدار السندات السيادية العراقية.
وقد عزا أسباب الأزمة إلى العقوبات الأميركية التي قيدت التعامل بالدولار لبعض البنوك الخاصة (نحو 14 مصرفاً عراقياً)، في محاولة لتقييد تدفق الدولار إلى الدول المجاورة الخاضعة للعقوبات الأميركية، واصفاً الحصول على الدولار بأنه بات معقداً إدارياً ومشيراً إلى أن العراق يدفع ضريبة موقعه الجغرافي بالقرب من هذه الدول.
وأوضح القراغولي أن قيمة الدينار العراقي تدهورت في عام 2014 تأثراً بتراجع إيرادات النفط وظهور تنظيم داعش، ما دفع المركزي العراقي حينها إلى التدخل لدعم الواردات عبر شراء الدولار، وتلقت العملة ضربة أخرى خلال جائحة كورونا ليتدخل المركزي مرة أخرى لزيادة التمويل النقدي عبر شراء سندات الخزانة بشكل غير مباشر لخلق وفرة في الدينار.
هذا السيناريو يتشابه مع الخطوات التي اتخذها مصرف لبنان المركزي لدعم الواردات التي استنزفت احتياطي الودائع بالعملة الأجنبية حتى لم تعد تتجاوز تسعة مليارات دولار حالياً.
كيف يختلف وضع العراق عن مصر ولبنان؟
ينفرد العراق عن مصر ولبنان بوفرة إيراداته النفطية التي يودعها في حساب خاص لدى الفيدرالي الأميركي منذ عام 2004، بموجب الاتفاقية الإطارية مع الولايات المتحدة.
ولإمداد العراق بالدولار، يشترط البنك المركزي الأميركي الشفافية في التحويلات الدولية كضمان لعدم تسرب الأموال إلى دول واقعة تحت الحظر الأميركي، وحتى اليوم رفض الفيدرالي نحو 80 في المئة من طلبات الحكومة العراقية تحويل الدولار، وفق مركز الإمارات للسياسات.
ويوفر المركزي العراقي هذه التحويلات للسوق عبر منصة إلكترونية تعرف باسم (مزاد العملة)، التي تتشابه مع منصة صيرفة التي قام لبنان بإلغائها مؤخراً، وتواجه تلك المنصات انتقادات عديدة بالفساد والتسييس والغش وتهريب الأموال.
وأوضح حيدر الشاكري، الباحث في (شاتام هاوس)، لـ«CNN الاقتصادية» أن العراق يستقبل ما بين 100 و150 مليون دولار يومياً من الفيدرالي الأميركي عبر منصة مزاد العملة، التي يذهب جزء محدود منها لشركات الصيرفة بينما يستفيد من جزء كبير منها «المتنفذون في العراق»، على حد قوله.
كان البنك الدولي قد وصف منصة صيرفة اللبنانية بأنها «نموذج للسياسات الضعيفة وغير المجدية»، مقدراً أرباح المضاربة من خلالها بنحو 2.5 مليار دولار.
وكشف مازن الصباح، مدير دائرة الاستثمارات بالبنك المركزي العراقي، أن البنك بدأ حزمة إصلاحات تهدف إلى إعادة الثقة بالقطاع المصرفي محلياً ودولياً، وتحسين الرقابة على المصارف، وحماية الودائع، وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتدفق رؤوس الأموال.
وعلى صعيد السيناريو المصري، عزا غاربيس أزمة الدولار إلى استنزاف الاحتياطيات الأجنبية لتمويل العجز الكبير في الموازنة العامة، فضلاً عن الإخفاق في التحول إلى نظام صرف أكثر مرونة، والاعتماد المفرط على تدفقات المحافظ الاستثمارية المتقلبة.
أما الأزمة اللبنانية، فتعود بشكل أساسي لضعف النظام السياسي الذي لا يزال عاجزاً عن تنفيذ سياسات اقتصادية أكثر مصداقية، وبحسب غاربيس فإن السياسات الحالية لا تكفي لحل أزمة بهذا الحجم، وقد تراجع الناتج المحلي الإجمالي في لبنان بنحو 40 في المئة على مدى السنوات الأربع الأخيرة.
عجز الموازنة
أشار القراغولي إلى أن الموازنة العراقية مثقلة بأعباء الإنفاق الحكومي على الرواتب، فضلاً عن عدم توظيف الإيرادات الحكومية في مشاريع استثمارية مربحة والإخفاق في جذب المستثمرين المحليين والأجانب.
وأوضح أن الفائض المالي العراقي لدى الفيدرالي الأميركي لامس مستويات قياسية تصل إلى 113 مليار دولار بفضل ارتفاع أسعار النفط الذي يمثل المورد الأساسي لعائدات الدولة العراقية، مؤكداً ضرورة الالتفات إلى أن النفط سلعة متقلبة تخضع لآليات السوق، ما يزيد الحاجة لتنويع موارد الاقتصاد وفتح الأسواق أمام مبادرات القطاع الخاص.
رغم ذلك، وصلت نسبة العجز في الموازنة الثلاثية الأخيرة -التي تغطي فترة ثلاث سنوات- في العراق إلى 25 في المئة، ما يثير المخاوف من تفاقم أزمة الديون نتيجة زيادة الاقتراض الداخلي والخارجي لتمويل العجز.
وبالمقارنة، وصلت نسبة عجز الموازنة في مصر إلى 7.5 في المئة مقابل 18.79 في المئة في لبنان.
وتعليقاً على ذلك، قال نادر من مركز المشرق للدراسات، إن مصر ولبنان والعراق دول مستوردة، ما يتطلب سياسات مالية خاصة للحد من الفساد، وإصلاح الموازنة العامة، وتحفيز عجلة النمو الاقتصادي، لا سيما في قطاعَي الصناعة والسياحة.
الإصلاحات شرط للاستثمار
أدت الحرب في غزة إلى تفاقم التحديات الاقتصادية التي تشهدها المنطقة، بينما لا يتوقع غاربيس تحسن الوضع على المدى القصير.
فالضغوط المالية على الدول والغموض الذي يكتنف مستقبل الاقتصاد العالمي جعلت المستثمر الأجنبي والخليجي يربط استثماراته بقيام تلك الدول بإصلاحات هيكلية كبرى، والانتقال إلى نظام سعر صرف مرن، واستئناف برنامج صندوق النقد الدولي.
كان صندوق النقد قد حذر في تقريره الأخير في يونيو حزيران من تقاعس السلطات اللبنانية عن اتخاذ إجراءات إصلاحية لانتشال البلد من الأزمة المستمرة منذ 2019.
وفيما يتعلق بمصر، أشار غاربيس إلى أن تصريحات الصندوق الأخيرة تشير إلى استعداده لتمديد البرنامج شريطة إسراع الدولة في برنامج بيع الأصول الحكومية، وبحسب قوله فإن هناك توجهات غير معلنة رسمياً تشير لصفقات بيع قيد التنفيذ قبل نهاية السنة المالية 2024.
ومع انضمام مصر إلى مجموعة البريكس، يُتوقع وصول الدولة لمصادر تمويل منخفضة التكلفة، فضلاً عن حصولها على إيرادات دولارية من شركائها الخليجيين عبر بيع شركات حكومية.
وفي العراق، الذي يعاني اقتصاده من الدولرة، فثمة توجه على ما يبدو، وفقاً للصباح، إلى وقف السحب بالدولار، محدداً مجموعة من الشروط والإجراءات الصارمة التي ستجعل الحصول على الدولار مهمة صعبة، خاصة من قبل الشركات المتوسطة والصغيرة.
تضمنت تلك الإجراءات التشجيع على عمليات الدفع الإلكتروني وتعزيز معايير الامتثال للحد من التجاوزات على منصة مزاد العملة، لكن الخبراء يرون أنها غير كافية لمعالجة الأسباب الجذرية للمشكلة.
وعلى صعيد التجارة، أوضح الصباح أن استراتيجية المركزي العراقي ترتكز على توسيع منافذ العرض على مستوى تمويل التجارة بالدولار الأميركي عبر ثمانية مصارف أميركية بشكل مباشر، وبعملة اليوان الصيني عبر خمسة مصارف، ويُتوقع أن تصل إلى عشرة، حسب قوله.
كان البنك قد أطلق مبادرة بالدرهم الإماراتي مع بنك أبوظبي الأول، مع احتمال توسيع المبادرة لمصارف أخرى، كما أن هناك جهوداً لتوقيع اتفاقيات مع تركيا للتعامل بالليرة التركية.
ويرى كارغولي أن اتفاقيات التجارة الحرة بالعملات المحلية ستكون محدودة رغم أهميتها.
وأوضح غاربيس أن الاتفاقيات التجارية السابقة المبرمة بالعملات المحلية لم تسفر عن تراجع فوري في التعامل بالدولار، مستشهداً على ذلك بالنموذج الروسي الذي اعتمد على إتمام الصفقات النفطية مع البلدان الصديقة لموسكو باليوان الصيني أو الروبل الروسي رداً على تضييق الخناق على النفط الروسي.
الدولار العملة الأكثر طلباً
يستبعد الخبراء بشكل شبه تام فك ارتباط النفط بالدولار كعملة رئيسية لتداول الذهب الأسود على المدى المتوسط.
وأشار غاربيس إلى أن تأثير الاتفاقيات التجارية الأخيرة بين السعودية والإمارات من جهة والصين والهند من جهة أخرى لا يزال محدوداً، وتنص تلك الاتفاقيات على إتمام الصفقات النفطية بالعملات المحلية بين تلك الدول، وحتى الآن لا يزال أكثر من 80 في المئة من صادرات النفط من دول مجلس التعاون الخليجي تتم بالدولار الأميركي.
وفي هذا السابق، باءت كل محاولات كسر هيمنة الدولار على سوق النفط بالفشل، وأكبر دليل على ذلك سوق العقود الآجلة للنفط باليوان.
وأوضح أن دول الخليج تحتاج إلى مزيد من الاستثمار الأجنبي المباشر من المستثمرين الأميركيين والأوروبيين والصينيين لتسريع عملية تنويع اقتصاداتها، لافتاً إلى أن الاستثمارات الصينية بالمنطقة لا تزال محدودة رغم العلاقات التجارية القوية.
كما أشار إلى اهتمام الصناديق السيادية الخليجية بالاستثمار في هذه الدول شريطة إنجاز الإصلاحات المطلوبة.
وحتى ذلك الحين، ستبقى الأنظار على وتيرة الإصلاحات المنشودة في تلك الأسواق قبل أن تبادر دول الخليج باستثمار سيولتها النقدية الكبيرة بها.