ينطلق الحدث الرياضي الأكبر في العالم بعد نحو 87 يوماً في 26 يوليو تموز هذا العام تحت الألوان الخمسة للجنة الأولمبية الدولية وتحت اسم «باريس 2024»، لكن في حقيقة الأمر تُنظم أغلب مسابقات أولمبياد باريس في ضاحية سين سان دوني التي تُعدّ الأكثر فقراً على أراضي بر فرنسا الرئيسي في أوروبا.
سين سان دوني هي المدينة الواقعة إلى الشمال من باريس والتي تستقبل كل ما لا تريده العاصمة على أرضها، سواء كان مخلفات أو سلوكيات أو حتى الفوضى؛ فهي التي تستقبل وتعدم مخلفات باريس وتستقبل السيارات المتهالكة لتخريدها، ولا تجد أثراً هنا لما تشتهر به باريس من دور الأزياء الفارهة والمتاجر الفخمة.
وقال أمادو، وهو شاب من سكان سان دوني، «لا أعرف إذا كان استقبال الألعاب الأولمبية هنا أمراً مفيداً أم لا»، فالشاب، الذي وُلِد في فرنسا لأبويين من غرب إفريقيا، يعمل سائق سيارة أجرة عبر تطبيقات النقل التشاركي ويخشى أن تضحى الحياة في المدينة مستحيلة في أثناء المسابقات ما قد يؤثّر على دخله.
تكتنف الحيرة سائر سكان المنطقة التي يشكّل المهاجرون العرب والأفارقة وأبناؤهم أغلبية قاطنيها.. فهم يشعرون بالفرحة لاستضافة الأولمبياد في بلدتهم القديمة التي شهدت كاتدرائيتها دفن جثامين ملوك فرنسا قبل قرون، ولكنهم يخشون من الزحام الشديد في أثناء فترة الألعاب الأولمبية التي ستستمر 17 يوماً، كما أنهم يتوجسون من الإجراءات الأمنية المشددة التي ستفرضها الشرطة الفرنسية طوال فترة المسابقات. فالمنطقة شهدت عملية إرهابية على أبواب استاد فرنسا في أثناء نهائي دوري رابطة أبطال أوروبا في صيف عام 2022.
وقال شمس الخلفاوي نائب عمدة سين سان دوني والمسؤول عن ملف الأولمبياد في المدينة في حوار مع «CNN الاقتصادية» عبر زووم «أنا فخور بتنظيم الأولمبياد هنا. ستعبر الشعلة الأولمبية من هنا من أمام كتادرائية سان دوني التاريخية ثم تجتاز باريس إلى أن يتم إشعال الشعلة الكبيرة في جادة تروكاديرو قرب نهر السين وبرج إيفيل».
الخلفاوي وُلِد في فرنسا لأبوين من أصول تونسية ومنحته الجمهورية فرصاً والناخبون أصواتاً حتى صار نائب عمدة المنطقة، ويرى الخلفاوي أن تنظيم الألعاب الأولمبية يعتبر فرصة كبيرة «للمدينة التي تستقبل المهاجرين، والطاردة للسكان في الوقت نفسه، والتي يشكّل الشباب أغلبية سكانها. فالألعاب الأولمبية أتاحت تسريع التنمية، والتحولات في منطقتنا هنا أحدثت طفرة كبيرة، لقد تم استثمار أكثر من 20 مليار يورو على كل هذه التحولات التي تشهدها المدينة».
ويعنى الخلفاوي بهذه التحولات إنشاء أكبر محطة قطارات في باريس الكبرى ومجمع سباحة أولمبي وإقامة القرية الأولمبية التي تبلغ مساحتها 52 هكتاراً واستغرق بناؤها ستة أعوام لتستضيف 14 ألفاً و250 رياضياً للألعاب الأولمبية وستة آلاف رياضي بارا أولمبي. وتم بناء القرية الأولمبية على أرضٍ كانت تضم العديد من المصانع المهجورة، وهي ضمن آلاف المصانع التي صنعت مجد فرنسا الصناعي والاقتصادي في فترة الثلاثين عاماً من 1945 حتى 1975 والتي يطلق عليها في فرنسا «الثلاثون المجيدة»، والتي بدأت مع نهاية الحرب العالمية الثانية وانتهت بأزمة النفط الكبرى.
تعي الجمهورية الفرنسية جيداً مشكلات المنطقة، فقد انطلقت منها شرارة لأحداث الغضب والعنف في الضواحي قبل نحو 20 عاماً، في أثناء السنوات الأخيرة من حكم الرئيس اليميني جاك شيراك، والتي تكررت عدة مرات منذ عام 2005. ولذلك قررت فرنسا توجيه المنشآت الأولمبية الجديدة إلى سكان المنطقة المحرومة؛ فمجمع حمامات السباحة الذي قام بافتتاحه الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون قبل أسابيع فتح أبوابه بالفعل للسكان قبل الرياضيين الذين سيتوافدون على باريس من منصف يوليو تموز القادم.
يضيف الخلفاوي أن مجمع السباحة الأولمبي سيغيّر حياة سكان المنطقة، إذ عدد حمامات السباحة لعدد الأفراد هو الأقل في فرنسا، فالمنطقة تعاني حرماناً كبيراً في إمكانات التعليم والبنى الرياضية، ويقول «قمنا بتوفير مئات آلاف ساعات العمل للسكان في قطاع البناء بفضل إنشاء القرية الأولمبية.. وسيتم تحويل ثلث المباني لشقق إسكان اجتماعي بإيجار معتدل القيمة، والثلث الثاني سيتم طرحه بشكل حر لمن يريدون شراء مسكن، أما الثلث الأخير فسيتم طرحه للبيع كإسكان اقتصادي، وتم التخطيط بحيث يكون هناك توازن سكاني بين مُلّاك ومستأجرين».
وبحسب توقعات لجنة التجهيز للألعاب الأولمبية فستتكلف المنشآت الأولمبية نحو 4.5 مليار يورو، ستضخها الدولة والقطاع الخاص، ونصيب سين سان دوني منها 1.8 مليار يورو، وهي تشكّل نحو 80 في المئة من التمويل الذي تقدمه الدولة.
وكانت إيزابيل فالونتان رئيسة اللجنة قد أكدت في تصريحات لها «أن المشاريع تلبي أولاً احتياجات سكان المنطقة».
وسيستقبل الحي الجديد الذي يتداخل الخشب والباطون والزجاج في واجهات مبانيه ستة آلاف ساكن بدءاً من صيف عام 2025 ومجمعي مدارس ومتاجر، ويُتيح كذلك ستة آلاف فرصة عمل جديدة.
تنظيم نسخة باريس 2024، بحسب الخلفاوي، أتاح مئات آلاف ساعات العمل لسكان المدينة الفقيرة، ولكن لا أحد يعرف ما إذا كانت الوظائف الجديدة ستكون من نصيب سكان المنطقة أم أن مدينة الملوك القديمة ستستعيد بريقها وتجتذب أبناء باريس الذين ضاقت بهم العاصمة.
فمنطقة سانت وان، إحدى مناطق سين سان دوني، ستشهد إنشاء المقر الفرنسي الجديد لعملاق السيارات الكهربائية تسلا.
وقد وصل سعر المتر المربع في العاصمة إلى 20 ألف يورو، ولكن في مبانٍ فارهة ذات أسقف عالية وواجهات وجيهة تعود إلى القرن التاسع عشر.
بيار موسكوفيتشي، رئيس محكمة الحسابات الفرنسية، وهي هيئة حكومية رقابية معنية بالحوكمة والمحاسبة، أوضح قبل أيام أن الألعاب الأولمبية ستكلف الحكومة ما بين ثلاثة وخمسة مليارات يورو، ومن الصعب تحديد المبلغ بشكل دقيق الآن.
وارتفعت الفاتورة مؤخراً بنحو 500 مليون يورو بعد تبني قرار علاوة قدرها 1900 يورو لرجال الشرطة الذين سيعملون على تأمين أكبر حدث رياضي تشهده فرنسا منذ نهائيات كأس العالم عام 1998.
وربما يحصل أمادو على دعوة من الدولة لحضور حفل الافتتاح أو أحد المسابقات. فستقوم بلدية سين سان دوني بتوزيع 150 ألف دعوة لحضور الفعاليات على سكان المدن والأحياء التابعة لها. أما الخلفاوي فقد يحظى بصعود سياسي جديد في حالة نجاح تنظيم الأولمبياد، وربما يحصل رياضيو سان دوني المشاركون في الأولمبياد والبالغ عددهم 15 على ميداليات أولمبية.. فهم يطمحون بكل تأكيد في التتويج بالذهب على بُعد أمتار قليلة من منازلهم.