وصلت القيمة السوقية لقطاع أشباه الموصلات إلى 611 مليار دولار وفق تقرير الربيع 2024 لمنظمة إحصاءات تجارة أشباه الموصلات العالمية، ومن المتوقع أن تناهز التريليون دولار منتصف العقد المقبل وفق آخر تقارير ألفاريز آند مارشال.
كانت السوق شهدت خلال السنة الماضية تراجعاً في الإيرادات بنسبة 11 في المئة (533 مليار دولار) نظراً للتوترات الجيوسياسية وارتفاع أسعار الفائدة اللذين تسببا في تعطيل سلاسل الإمداد وتدني القدرات الشرائية لدى المستهلكين.
وأنعش إطلاق إنفيديا -التي دخلت أواخر العام الماضي نادي الـ5 الكبار للمرة الأولى على سوق ناسداك لشرائح تطبيقات الذكاء الاصطناعي القائمة على معالجة الرسومات GPU- سوق أشباه الموصلات التي -برأي الخبراء- أدخلت القطاع في دورة جديدة من النمو.
الجائحة الذكية
وصف يسار جرار الأستاذ المشارك في كلية «هولت» للأعمال لـCNN الاقتصادية أن الذكاء الاصطناعي هو الجائحة الجديدة التي ستغزو اقتصادات العالم وتعتبر صناعة أشباه الموصلات من المكونات الأساسية لها.
وتوقعت شركة غارتنر للأبحاث استخدام أكثر من 80 في المئة من المؤسسات الذكاء الاصطناعي في أعمالها بحلول عام 2026، وإنتاج أكثر من 30 في المئة من الأدوية والمواد الجديدة عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي التوليدي.
وتدخل اليوم هذه الموصلات في الصناعات والقطاعات كافة من الحواسيب (26%) والاتصالات (30%) والسيارات (14%) إلى الاستهلاك الفردي والصناعة (14%) والقطاع العسكري (2%) وفقاً لأرثر دي ليتل.
وتحتاج صناعة الموصلات إلى مواد خام أولية كالسيليكون والنحاس والألومنيوم والذهب والفوسفور وغيرها، ما يجعل عمليات تصنيعها معقدة ومرتبطة بالتطورات السياسية والاقتصادية العالمية.
وحتى اليوم تهيمن الصين على إنتاج هذه المواد، حيث تمتلك 11 عنصراً أساسياً طبيعياً، تليها جنوب إفريقيا التي تمتلك أربع مواد أساسية، الأمر الذي يعطي هذه العناصر مراكز استراتيجية في سلاسل التوريد العالمية لأشباه الموصلات، ويجعلها موضوع حروب اقتصادية، رشح جرار زيادة حدتها في المستقبل.
تعقيد وتنوع في سلاسل الإمداد
تتصف سلاسل إمداد أشباه الموصلات والرقائق بالتنوع بين الدول والشركات، تبدأ بمرحلة إنتاج وتصدير المواد الخام ومصنعي المعدات اللازمة لصناعة الرقائق الإلكترونية وقطاع التصميم والابتكار وقطاع البحوث، إلى التجميع والاختبار فالتخزين، وتتنوع كذلك هذه القطاعات وفق التخصصات في استخدامات الرقائق الإلكترونية.
وقالت هدى الخزيمي الأستاذ المساعد في جامعة نيويورك بأبوظبي ومؤسس مؤسسة (Emaratsec) ورئيس مشارك لمجلس المستقبل لمنتدى الاقتصاد العالمي لـCNN الاقتصادية «إن هناك فجوات عالمية في سلاسل الإمداد وهي تتنوع بين لاعبين رئيسيين يتحكمون في مختلف جوانب هذه الصناعات، فالتنوع وفق الاختصاصات يعكس تعقيداً في سلاسل إمداد الرقائق على المستوى العالمي وتباين القوى بين الشركات والدول المنتجة».
وأضاف أندريه بوركاكي شريك أول في ماكينزي ويتولى قيادة قسم أشباه الموصلات في الشركة لـCNN الاقتصادية “إن الاضطرابات في سلاسل التوريد في السنوات الأخيرة، سواء كان سببها الأحداث الطبيعية أو التوترات الجيوسياسية، يجب على القطاع الصناعي التعامل معها، وبهذا الصدد، فإن عدداً من اللاعبين يستكشفون الفرص لتنويع بصمتهم في هذا المجال ولضمان المرونة عندما يتعلق الأمر بالقدرة على الحصول على مصادر متعددة في جميع أنحاء العالم”.
ويرى الخزيمي أن الصين وأميركا هما أكبر المستهلكين والمنتجين لهذه الشرائح، ولكل منهما نقاط ضعف وقوة يستخدمانها لممارسة الضغوطات الخارجية عبر نقاط التعرض التجاري المختلفة داخل الصناعة، وأفادت «أن أميركا تقود اليوم على صعيد الابتكار والتصميم، بينما تهيمن الصين على التجميع والاختبار، وكلاهما يمارس الضغوط على تايوان التي تنتج أكثر من نصف القدرة العالمية لتصنيع الشرائح».
ولم يستبعد جرار هيمنة كل من الاتحاد الأوروبي والصين وأميركا على هذا القطاع، عازياً ذلك إلى ثلاثة أسباب رئيسية، هي سيطرة بعض الدول على 70 في المئة من مدخلات الإنتاج أي العناصر الأرضية النادرة، ومحدودية مصانع المعدات التي تحتاج إليها هذه الصناعة وندرة المواهب في هذا القطاع.
توطين الصناعات
وتنقسم سلاسل الإمداد وفق تراند فورس بهدف التكيف مع المخاطر الجيوسياسية المطردة بين سلاسل إمداد تعتمد على الصين وسلاسل إمداد مستقلة عنها.
وسرعت قوانين الحماية الوطنية والقيود المفروضة على الواردات والمواد الأولية من مسار هذا التكيف، وأدت إلى تغيرات في ديناميكية السوق التي شهدت اتجاهين بارزين لدى الشركات والحكومات.
يتمثل الأول في تكثيف الاستثمار المباشر في أسواق جديدة من جهة، وسعي الحكومات من خلال قوانين وحوافز مالية مقدمة للشركات المحلية والأجنبية إلى توطين الصناعات والتكنولوجيا الخاصة بالرقائق.
وترى الخزيمي «أن تنويع مصادر الإمداد والاستثمار في القدرات التصنيعية المحلية يسهم في تعزيز الاستقلالية والمرونة لسلاسل الإمداد ويضمن أيضاً توزيعاً عادلاً للموارد والفرص للتواؤم وأهداف التنمية المستدامة التي تشدد على أهمية تقليل الفوارق وضمان الوصول العادل إلى التكنولوجيا».
فيما يرى بوركاكي أنه ليس هناك طريقة سهلة للتوطين نظراً لأهمية اللاعبين البارزين في سلسلة التوريد وتنوعهم، مضيفاً أنه يجب علينا التطلع إلى سلسلة القيمة كاملة إذا أردنا تحقيق المرونة في سلاسل الإمداد، وذلك يعني «أنه حتى لو تمكنا من توطين بعض مكونات التصنيع على سبيل المثال، فلا تزال هناك حاجة إلى توطين مرافق أخرى، لا سيما مرافق الدعم الخلفية لهذه الصناعة حيث ستستمر بعض الإمدادات بالاحتفاظ بالصبغة العالمية».
وأضاف يسار جرار أنه ليس هناك من استراتيجيات عالمية متفق عليها على هذا الصعيد، وتبقى الرقائق وأشباه الموصلات موضوع تحالفات وتعاون على مستوى الدول الكبرى، ولو أن القطاع يشهد دخولاً متزايداً للاعبين جدد.
وعزا جرار توطين الصناعات الخاصة بالرقائق إلى أسباب مختلفة كالتخزين الاحتياطي للمواد الأولية وتحقيق الأمن وتيسير نقل التكنولوجيا إلى جانب خلق وظائف لتنويع الاقتصاد.
وأشاد جرار بدور كوريا الجنوبية التي توظف جزءاً مهماً من ميزانيتها للتطور الرقمي البالغة 450 مليار دولار في صناعة الرقائق، وكذلك الاتحاد الأوروبي الذي خصص ميزانية موحدة بهدف زيادة إنتاجه من أشباه الموصلات لتصل إلى ما نسبته 20 في المئة من الإنتاج العالمي.
الدخول العربي
يندرج الذكاء الاصطناعي في الرؤى الاقتصادية المستقبلية لكل من الإمارات والسعودية وقطر التي تسعى إلى تكثيف حضورها على سلاسل الإمداد العالمية للموصلات والرقائق، ورأى جرار أن مزايا تفاضلية عديدة تمكنها من القيام بذلك كالموقع الاستراتيجي المتميز والموارد المتوفرة لإنتاج الطاقة بأسعار تنافسية، إلى جانب توظيف الاستثمارات الهائلة في قطاع التكنولوجيا، والسيولة التي تتمتع بها الصناديق السيادية.
ومقابل ذلك رأى جرار ضرورة الاهتمام بعدة عناصر والرفع من وتيرتها وهي الملكية الفكرية وتكثيف الشراكات والاتفاقيات الدولية بهدف تعدين الموارد، والأهم هو الاستثمار في البحث والتطوير وبناء المهارات التي تتسم بمحدوديتها في مجال صناعة الرقائق.
ودعا جرار إلى أهمية تحديد المكانة التي تريدها الدول العربية في صناعة أشباه الموصلات، خاصة أن الإمارات تلعب دوراً ريادياً في إعادة تدوير النفايات الإلكترونية وبناء مراكز تحتية لتخزين البيانات، «فلا بد من اختيار الدول العربية للموقع الذي تريده لركوب قطار التطور في جائحة الذكاء الاصطناعي، حيث إن هذه الصناعة لا تزال في بداياتها ولم تفت الفرصة بعد».