بقاء أورسولا فون دير لاين على رئاسة المفوضية الأوروبية للولاية الثانية على التوالي على الرغم من فوز الأحزاب اليمينية في انتخابات البرلمان الأوروبي التي عقدت في مطلع شهر يونيو حزيران الحالي يبقى دليلاً على أن تركيبة البرلمان لم تتأثر بشكل جذري رغم تفشي ظاهرة صعود اليمين في أوروبا.

ومع دعوة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى حل البرلمان الفرنسي وإجراء انتخابات برلمانية مبكرة، تتوجه الأنظار أواخر الشهر الحالي إلى باريس لمراقبة تقلب بورصة الأحزاب المتنافسة اليمينية واليسارية، فعام 2024 عام انتخابي بامتياز حيث تجري أكثر من 50 دولة في العالم انتخابات، ومن أبرزها المعترك الأميركي بين الرئيس جو بايدن وخصمه دونالد ترامب.

نقطة فاصلة في تاريخ أوروبا

حققت الأحزاب السياسية اليمينية مكاسب على حساب الأحزاب الليبرالية والخضراء في الغالب في كل من إيطاليا وفرنسا وألمانيا ولو أنها لم تحقق النجاح الذي توقعه البعض، وينظر

الاتحاد الأوروبي إلى نتائج انتخابات 2024 كنقطة فاصلة في مستقبل التكتل.

وقال مستشار رئاسة مجموعة العشرين عبدالحميد ممدوح إن تنامي اليمين «سيكون له تداعيات سلبية على اقتصادات هذه الدول»، مشيراً إلى أن هذه التأثيرات ستظهر سواء داخل الاتحاد الأوروبي «بين الدول الأوروبية وبعضها أو مع علاقة الاتحاد الأوروبي والشركاء التجاريين الخارجيين بما فيهم دول الشرق الأوسط».

وكمحاولة استباقية منه للتقليل من فرص اليمين الشعبوي والحفاظ على أصوات الناخبين الداعمين للأحزاب اليسارية والوسطية والليبرالية وضع الاتحاد خططاً إصلاحية تستهدف هيكلة الميزانية وسداد الديون وإعادة التوازن للاقتصاد الكلي الذي يؤثر على اقتصادات الدول الأوروبية لا سيما بعد حرب أوكرانيا وحرب غزة واضطرابات البحر الأحمر.

ورأى المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات في دراسة بعنوان «اليمين الشعبوي– كيف يؤثر على سياسات الاتحاد الأوروبي بعد فوزه بانتخابات 2024» أن هذه الخطط تضع الحكومات في مأزق «لاعتراض بعض الأحزاب التقليدية عليها خاصة ملفي الهجرة والاقتصاد».

وأشارت الدراسة إلى أنه على الرغم من الصعود القوي لليمين المتطرف وتوافقه المبدئي إزاء قضايا الهوية والهجرة والسيادة فإنه لا يزال يفتقر إلى التجانس بين أطرافه.

وأوضح أستاذ التواصل الاستراتيجي والعلاقات الحكومية في باريس نضال شقير لـCNN الاقتصادية أن صعود أقصى اليمين أصبح أمراً واقعاً على الأرض، خاصة أنه يحكم في عدد كبير من الدول، إنما لن يكون هناك من تداعيات كبيرة كون أقصى اليمين الحاكم هو أقصى اليمين الواقعي -مثل حكومة جورجيا ميللوني- الذي يختلف بمشاريعه وطروحاته عن أقصى اليمين الذي لا يحكم والذي لديه طروحات غير واقعية.

ووصف شقير أن هناك نوعاً من التعايش بين الأنظمة في الحكم ولم تتخذ إجراءات جذرية من قبل الأحزاب اليمينية على الصعيد الاقتصادي لافتاً إلى تخلي هذه الأحزاب عن مبادئها الرئيسية خاصة تلك المتعلقة بالاقتصاد للتكيف مع المتطلبات والمتغيرات العالمية.

فرنسا واليمين

وقال شقير إن الجبهة الوطنية بقيادة مارين لوبين ستكون القوى الرئيسية الأولى ولن تحقق الأغلبية المطلقة، لا سيما أن النظام في فرنسا هو نظام رئاسي «الأمر الذي سيدخل فرنسا في عام صعب، ولن يكون هناك اتزان في عمل المؤسسات لأنه لا أحد يمتلك الأكثرية».

وأوضح أن الانتقادات التي تطول أقصى اليمين في فرنسا تتعلق بعدم شفافية وجهوزية مشاريعهم، لافتاً إلى أن فرنسا ستشهد نوعاً من عدم الاستقرار في حال فوز جوردان بارديلا برئاسة الوزراء إلى جانب بعض التضارب والحساسية في التعامل مع الدول المجاورة كألمانيا، حيث دعا المستشار الألماني أولاف شولز لعدم التصويت لليمين المتطرف.

وشرح شقير أن من أبرز تداعيات فوز اليمين في فرنسا، الخروج عن بعض السياسات الأوروبية كون حزب الجبهة الوطني الفرنسي يدعو للخروج من تعرفة الكهرباء الأوروبية المشتركة وينادي بالاستقلالية وبعض الأمور الأخرى المتعلقة بالطاقة النظيفة. ولكن تبقى ملفات الهجرة والأمن هي أساس الخطاب اليميني الذي يعتمد على إرضاء الناس كتخفيض ضريبة القيمة المضافة وفاتورة الوقود والطاقة لإعطاء دفع جديد للظروف المعيشية للمواطنين.

وحول التوجه نحو سياسات حمائية، استشهد شقير بميللوني التي اتبعت سياسة التأقلم معرباً أن الخيار الوحيد بالنسبة لأقصى اليمين هو خيار أوروبا، ولن يكون هناك من تداعيات أساسية على الاقتصاد.

شعبوية اليمين الأوروبي

أسهمت عدة عوامل في صعود قوى اليمين المتطرف في أوروبا، وأبرزها عدم ثقة الشارع الأوروبي بقدرة الحكومات على حل المشكلات الاقتصادية خاصة قضية المهاجرين واللاجئين التي تتزايد تفاقماً.

وبرز خطاب اليمين بقدرته على الربط بين المشكلات الاقتصادية والمالية وبين النواحي الأمنية وتداعيات الهجرة وتدفق اللاجئين، وعمقت أزمة أوكرانيا وغزة والعقوبات المفروضة على روسيا من مخاوف الشارع الأوروبي بظل ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء وتباطؤ النمو الاقتصادي ومعدلات البطالة والتضخم.

قدم رئيس منظمة أرباب العمل الرائدة في فرنسا باتريك مارتن تقييمه في مقابلة نشرت يوم الأربعاء على موقع صحيفة لوفيجارو على الإنترنت: «يشكل برنامج التجمع الوطني خطراً على الاقتصاد الفرنسي والنمو والتوظيف، كما يشكل برنامج الجبهة الشعبية الجديدة خطراً على الاقتصاد الفرنسي والنمو والتوظيف، الائتلاف اليساري، NFP لا يقل خطورة، إن لم يكن أكثر خطورة».

وتؤثر العلاقات التجارية والسياسات الاقتصادية مع تزايد الدعوات للحمائية الاقتصادية وتقليل الاعتماد على التكتلات الاقتصادية الكبرى.

وبحسب مركز الإمارات للسياسات، من أهم الاختلافات بين القوى الرئيسية في البرلمان الأوروبي الموقف من السياسات الخارجية، إذ يسعى الائتلاف الوسطي عبر رئيسته أورسولا فون دير لاين إلى تطوير جهاز السياسة الخارجية للاتحاد واستحداث منصب وزارة خارجية له وتشكيل مجلس أمن أوروبي وتوسيع الاتحاد نحو دول البلقان.

أما ما يخص العلاقات مع الصين، فيسعى الائتلاف إلى تحقيق استراتيجية طويلة المدى مع الصين وتايوان، مدارها الأساسي حماية الأمن الاقتصادي الأوروبي لا سيما الشركات الأكثر ابتكاراً من عمليات الاستحواذ الصينية وتجنب الصراعات السياسية العالمية عند التعامل مع الصين بهدف التعامل مع المخاطر بدلاً من القطيعة، وهي بحسب الدراسة رغبة اليمين المتطرف.

أما في ما يخص العلاقات مع روسيا، فتؤكد الدراسة أن الائتلاف يسعى إلى حشد المزيد من المساعدات العسكرية لدعم أوكرانيا كون الحرب الدائرة تؤثر على الأمن القومي الأوروبي.

وأضافت الدراسة أن الائتلاف الوسطي الذي تمثله فون دير لاين يدعو إلى التعامل مع الولايات المتحدة كحليف ومنافس والميول إلى الطرف الأميركي غرباً بدلاً من الصين شرقاً، أمّا اليمين المتطرف، فيدعو إلى المزيد من الاستقلالية عن واشنطن في المجالات الدفاعية والقطاع الرقمي.