هي ساعات معدودة وتستنفد ما تبقى من مستشفيات قطاع غزة بما فيها من غرف الجراحة والعناية المركزة وحاضنات الأطفال والمعدات الطبية، ما تبقى من كميات الوقود المتضائلة بعد شهر على بداية الحرب مع إسرائيل ما ينذر بمرحلة أكثر مأساوية من أسوأ السيناريوهات.

«الآن توقفت نصف الإمكانيات الجراحية في مستشفى الشفاء ونتوقع أن تتوقف الخمسين في المئة المتبقية في خلال الثمانية وأربعين ساعة المقبلة»، بهذا التصريح المقتضب لخص أخصائي الجراحة التجميلية والترميمية الطبيب الفلسطيني البريطاني د. غسان أبوستة وضع إحدى أكبر المستشفيات العاملة حالياً في القطاع في رسائل صوتية لمنصة «CNN الاقتصادية» في الممرات المعتمة لمستشفى الشفاء وبين عملية جراحية وأخرى وسط أسوأ ظروف قد يشهدها طبيب في منطقة نزاع.

وتطوع د. أبوستة مع منظمة «أطباء بلا حدود» الدولية منذ ما قبل بداية الحرب الحالية في قطاع غزة كما فعل في جميع الحروب السابقة في الأراضي الفلسطينية، لكن شهاداته لـ«CNN الاقتصادية» وتغريداته في اللحظات التي تتوفر فيها الإنترنت تظهر هول الوضع الاستشفائي والمحاولات الحثيثة لإنقاذ الأرواح وتجميل جراحها قدر الإمكان وسط إمكانيات معدومة.

وقال د. أبوستة إنه بسبب «توقف وانقطاع الوقود فإن مستشفى كمال عدوان توقفت، ومستشفى الشفاء على مولد واحد بدل اثنين، الغرف معظمها معتمة بس مناطق العناية المركزة والأطفال الخدج والعمليات ما زالت مزودة بالوقود، وهناك 150 من الطواقم الطبية من الأطباء والممرضين والمسعفين على الأقل استشهدوا غير الأعداد الهائلة الذين استشهد لهم أقارب وأبناء وأهالٍ، كل هذا مع النقص الحاد المستمر في المعدات والمستهلكات شلَّ القطاع الصحي».

بدورها حذّرت متحدثة اللجنة الدولية للصليب الأحمر في الشرق الأوسط إيمان الطرابلسي في حديث لمنصة «CNN الاقتصادية» من أن قطاع الصحة اليوم في غزة دخل بالفعل مرحلة الانهيار الذي لا يمكن تفاديه أو عكسه وسط استمرار العمليات العسكرية من جهة وانقطاع المساعدات الإنسانية والطبية والوقود من جهة أخرى.

وقالت وزارة الصحة في قطاع غزة في آخر حصيلة لها إن ما لا يقل عن 10569 فلسطينياً، بينهم 4324 طفلاً، قتلوا في الضربات الإسرائيلية على القطاع منذ السابع من أكتوبر تشرين الأول.

كما نبّه المتحدث باسم مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية ينس ليرك يوم الثلاثاء إلى أن الخدمات في قطاع غزة تقترب من «نقطة الانهيار» من دون إمدادات الوقود، مضيفاً أنه لم تكن أي من شاحنات الإغاثة التي دخلت القطاع، وعددها 569 حتى الآن، تحمل وقوداً.

وقال مارتن غريفيث منسق الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة الأسبوع الماضي إنه كان هناك «بعض التقدم» في المفاوضات المتعلقة بالسماح بدخول الوقود إلى قطاع غزة الذي تحاصره إسرائيل، من دون الخوض في تفاصيل، وفق وكالة رويترز.

وأفاد المتحدث باسم منظمة الصحة العالمية كريستيان ليندماير أنّه «يتم إغلاق مزيد ومزيد من المرافق، يتم إغلاق مزيد ومزيد من سبل إنقاذ الحياة»، في إشارة إلى إمدادات الوقود.

لا وقود

لكن في الوقت الحالي، يغلّف الظلام معظم أقسام المستشفيات لتوفير ما تبقى من التيار الكهربائي لأجزاء من أقسام الجراحات والعناية المركزة والحاضنات قبل أن يعمّ الظلام الشامل في غياب أي أنباء عن قرب دخول المساعدات أو فتح ممر إنساني لإخراج الجرحى.

وقالت مديرة الإعلام والتواصل في كافة مناطق عمليات وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) جولييت توما في تصريح لـ«CNN الاقتصادية» إن «تناقص كميات الوقود يخاطر بحياة الآلاف من الجرحى والمرضى في غرف العناية المركزة وأولئك الذين يحتاجون إلى جراحات عاجلة ومستمرة بالإضافة إلى الأطفال الذين يحتاجون إلى حاضنات وأكثر من ألف مريض يحتاجون لغسيل الكلى».

ويحتاج قطاع غزة حالياً إلى 94 ألف لتر من الوقود يومياً على الأقل وهو الحد الأدنى لإبقاء المهام الحيوية عاملة في 12 مستشفى رئيسية، وفق المنظمة.

وأشارت توما إلى وجود حاجة ماسة إلى الوقود للحفاظ على استمرار العمليات الإنسانية الحرجة، كما أن المخزون الحالي تم استنفاده تقريباً، ما قد يجبر خدمات منقذة للحياة على التوقف، وهذا يشمل مياه الأنابيب فضلاً عن الوقود للقطاع الصحي والمخابز والمولدات.

وجاء كلامها تأكيداً لما قاله المفوض العام للأونروا في تصريح قبل أيام إنّه من دون وقود لن يكون هناك استجابة إنسانية ولن تصل المساعدات للناس الذين يحتاجون إليها ولا كهرباء للمستشفيات ولا وصول للمياه النظيفة ولا وجود للخبز.

بدوره، أكّد رئيس مدير مركز جنيف للدراسات الإنسانية البروفسور جنيف كارل بلانشيت لمنصة «CNN الاقتصادية» عبر تطبيق «زوم» أن انعدام الوقود “سيسبب ضرراً بالغاً لحياة المرضى بعد توقف الخدمات التي تمدّهم بالحياة».

كما أشار د. أبوستة إلى استهداف القصف يوم الاثنين لألواح الطاقة الشمسية على سطح مستشفى الشفاء، التي يعمل فيها، ما قضى على أحد البدائل الوحيدة للوقود.

بين أروقة المستشفيات

وبعد شهر من العمليات العسكرية المتواصلة والحصار والدمار الهائل الناتج عنها، لم يتبق في قطاع غزة مستشفى تعمل بالكامل، وفق الإحصاءات الدولية.

كما أن ثلث المستشفيات الخمسة والثلاثين التي أنشأت لخدمة أحد أكثر الأماكن اكتظاظاً بالسكان في العالم باتت خارج الخدمة وثلث الطاقم الطبي فقط متبقٍ للعمل، وفق وزارة الصحة في القطاع.

وقالت منظمة الصحة العالمية إن أكثر من 160 من العاملين في مجال الرعاية الصحية لقوا حتفهم أثناء الخدمة في غزة.

ولفتت أروى دامون، مؤسسة ومديرة جمعية إنارة التي تعنى بتمويل وتوفير الرعاية الطبية للحالات المستعصية من جرحى الحرب من الأطفال وهي مراسلة صحفية بارزة في تغطية النزاعات والحروب سابقاً لشبكة «CNN» الدولية في تصريح لمنصة «CNN الاقتصادية» إن «ما نراه في غزة يحجب أي تجربة عشتها أنا أو أي شخص آخر في أي منطقة نزاع على مدى السنوات العشرين الماضية وما يتكشف أمامنا الآن أمر لا يمكن استيعابه».

وأضافت دامون «نحن أمام وضع حيث السكان غير قادرين فعلياً على الفرار وحيث لا يقدر السكان على الحصول على مياه شرب نظيفة وحيث يتعين على المستشفيات استخدام الخل بدلاً من المحاليل المناسبة لتعقيم وتنظيف إصابات الحرب الكارثية وحيث يتم علاج الأطفال والمرضى الآخرين على الأرض والممرات لأن الأسرة ممتلئة عن آخرها وحيث يتعرض الأطفال في الحاضنات لخطر الموت بسبب انقطاع الكهرباء الوشيك».

وقال د أبوستة إنّه في الأيام الأخيرة في آخر يومين حصل استهداف مركّز للمستشفيات ومداخلها.

وأوضح المتحدث باسم وزارة الصحة في غزة أنه عند استهداف مستشفى الشفاء كان 170 مريضاً ومئات النازحين في مبنى المستشفى في ذلك الوقت، وفق ما ذكرت وكالة رويترز.

لكن متحدثاً باسم الجيش الإسرائيلي لدى سؤاله عن هذه التقارير قال: «لم تكن هناك ضربة للجيش الإسرائيلي على مستشفى الشفاء».

وقال البروفسور بلانشيت، وهو متخصص في الأنظمة الصحية والنزاعات، لمنصة «CNN الاقتصادية» إنه من المهم الإشارة إلى أن الحرب في قطاع غزة استهدفت قطاعاً صحياً يعاني منذ عام 2008، وفق إحصاءات ونداءات منظمة الصحة العالمية المتتالية، في الأصل من النقص والقصور على المستويات كافة.

«بالنسبة إلينا من الصعب للغاية أن نرى زملاءنا في القطاع الصحي والإنساني في غزة يصارعون ويكافحون ليكونوا قادرين على القيام بعملهم كعاملين في القطاع الصحي»

وأضاف أن الجراحين يعملون في المستشفيات من دون أي عمليات تخدير في الوقت الذي تشكل فيه المساعدات التي دخلت عبر معبر رفح أقل من عشرة بالمئة مما يحتاجون إليه بالفعل.

مخاطر الأمراض وتفاقم الحالات

وفي تعليق على الوضع الصحي في غزة لـ«CNN الاقتصادية»، نبّهت منظمة الصحة العالمية على وجود أكثر من مليون شخص نازح، بينهم 600 ألف في ملاجئ مكتظة فهؤلاء الأشخاص عرضة للأمراض المعدية والأمراض التي تنتقل للبشر جراء استهلاك المياه الملوثة وسط الافتقار للمياه الصالحة للشرب.

فضلاً عن مخاطر الإصابة بأمراض مثل الإنفلونزا وكوفيد 19 وغيرها من أمراض الجهاز التنفسي التي تنتقل بسهولة.

وفي الأسبوع الماضي فقط سجلت المنظمة ما يقرب من سبعة آلاف حالة من أمراض الجهاز التنفسي وثلاثة آلاف حالة من الإسهال لدى الأطفال ومئات الحالات من الأمراض الجلدية.

ولفت البروفسور بلانشيت إلى أن حجم الكارثة الناتجة عن حرب غزة مأساوي وغير مسبوق، مشيراً إلى أن شهادات العاملين في المنظمة الدولية للصليب الأحمر ومنظمة أطباء بلا حدود تشير إلى الحروق البليغة التي تعرض لها سكان قطاع غزة خلال القصف والجروح البليغة الناتجة عن انهيار المباني على سكانها وهذه جراحات معقدة للغاية.

وقال البروفسور بلانشيت «ما علينا أن نتنبه له أيضاً أن هناك الكثير من المرضى من ذوي الأمراض المزمنة في غزة ويعانون من السرطان والسكري وارتفاع ضغط الدم ومشاكل في الكلى ويحتاجون للدواء يومياً وبالتالي فإن فقدان هذه الأدوية يؤثر بشكل مباشر على حياتهم».

وفي تقريرها لـ«CNN الاقتصادية»، توقعت منظمة الصحة العالمية انتشار سوء التغذية بين سكان غزة وسط المساعدات الإنسانية المحدودة وخصوصاً عند الأطفال تحت سن الخامسة ولدى النساء الحوامل والمرضعات

ولفتت إلى أن 64% من السكان في غزة تم تصنيفهم على أنهم يعانون من نقص حاد في التغذية أو معتدل قبل التصعيد الأخير كما أن نصف مليون شخص لم يتمكنوا من الحصول على حصصهم الغذائية بعد إقفال مراكز الاونروا لتوزيع الأغذية.

الأثر غير المرئي

وحذّر البروفسور بلانشيت من أن الأثر غير المرئي للحرب لم يحل بعد وبعد أسابيع وأشهر وسنوات طويلة سيكون له تأثير طويل الأمد على السكان ووضعهم النفسي، كما أن عدم حماية الطاقم الطبي وسيارات الإسعاف سيكون له الأثر الأبلغ على الأطراف المتنازعة في هذه الحرب.

«الناس في حالة من الصدمة النفسية الحادة، نحن نرى أطفالاً يرتجفون من الخوف، هناك صدمات هائلة وضغط بالغ وقلق شديد من المستقبل وهذا سيكون له أثر طويل الأمد وآثار على صحة هؤلاء الأفراد الذي يعانون في هذا النزاع».

وأشار إلى أنه في حال توقفت الحرب الآن أو لاحقاً فإنه يتعين على القطاع الصحي الفلسطيني أن يواجه تحدياً هائلاً في الأشهر القليلة المقبلة والسنوات المقبلة بعد خسارة البنية التحتية الطبية والمنشآت والطواقم الطبية ذات الخبرة.

وقال البروفسور بلانشيت «إن الطاقم الصحي هناك -اليوم- مرهق ومنهك يعملون على مدار الساعة، إن إعادة بناء القطاع الصحي لا يتعلق فقط بتوفير الأدوية والمعدات إنه أكثر بكثير، علينا أن نبذل جهوداً هائلة للعثور على المهارات اللازمة وفق الآليات المناسبة وهذا يحتاج إلى الوقت، لا توجد عملية سحرية لإعادة البناء وعلينا أن نوفر استثمارات هائلة للسنوات القليلة المقبلة لبناء الجيل الجديد من العاملين الصحيين في غزة».

وعلى الرغم من تدهور الأوضاع مع كل ساعة ومغادرة الكثيرين شمال القطاع باتجاه جنوبه، فإن الأطباء والممرضين والمسعفين والجسم الطبي هم الوحيدون الذين لا خيار أمام واجبهم إلا البقاء إلى جانب جرحاهم وعدم تركهم للموت مرة ثانية.