أوروبا في مفترق طرق.. الإنفاق على السلاح ينال من حصة الحماية الاجتماعية

أوروبا في مفترق طرق.. الإنفاق على السلاح ينال من حصة الحماية الاجتماعية

لأكثر من سبعين عاماً، تمتعت أوروبا بسلام نسبي، مكّنها من تحويل مواردها نحو بناء أنظمة حماية اجتماعية متقدمة تشمل الصحة والتعليم والتقاعد، إلا أن التغيرات الجيوسياسية المتسارعة والضغوط الأميركية المتزايدة دفعت القارة إلى سباق تسلح جديد يهدد هذه المكاسب.

اليوم تواجه أوروبا معضلة حقيقية؛ كيف يمكنها ضمان أمنها دون الإضرار بأنظمتها الاجتماعية التي استثمرت فيها لعقود؟

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

ما الذي تغير؟ من الحماية الأميركية إلى المسؤولية الذاتية

بعد الحرب العالمية الثانية، اعتمدت أوروبا بشكل كبير على المظلة الأمنية الأميركية، حيث نشرت الولايات المتحدة قواتها العسكرية في القارة لردع التهديدات، خاصة خلال الحرب الباردة، مكّن هذا الدعم الدول الأوروبية من تقليص إنفاقها العسكري وتوجيه الموارد نحو تطوير البنية التحتية، وأنظمة التعليم، والرعاية الصحية.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

لكن هذا التوازن بدأ يتغير مع وصول الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى السلطة، حيث وجّه انتقادات حادة لحلفائه الأوروبيين واتهمهم بعدم الإيفاء بالتزاماتهم الدفاعية داخل حلف شمال الأطلسي، وفي عام 2014، حدد الناتو هدفاً بضرورة إنفاق كل دولة عضو ما لا يقل عن 2% من ناتجها المحلي الإجمالي على الدفاع، لكن العديد من الدول الأوروبية لم تلتزم بذلك.

ومع تصاعد التوترات مع روسيا، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية عام 2022، بدأت الدول الأوروبية تدرك أن الاعتماد على الولايات المتحدة لم يعد خياراً مستداماً، ما دفعها إلى إعادة تقييم سياساتها الدفاعية وزيادة إنفاقها العسكري بوتيرة غير مسبوقة، واليوم ...

سباق تسلح جديد.. كيف تستجيب الدول الأوروبية؟

أمام التحديات المتزايدة، بدأت دول الاتحاد الأوروبي في رفع ميزانياتها العسكرية، لكن الاستجابات تفاوتت من دولة إلى أخرى، وفقاً لأولوياتها الاقتصادية والسياسية.

لكن المعادلة تغيّرت الآن، إذ هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب بسحب الضمانات الأمنية من الدول التي لا تسهم بما يكفي في تمويل دفاعها، ومع توجهه نحو تحسين العلاقات مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى تبنّي سياسة دفاعية أكثر استقلالية، وهو ما يفرض عليها أعباء مالية هائلة، وقد أدى ذلك إلى استنفار العواصم الأوروبية، حيث باتت تعيش حالة طوارئ سياسية.

الاتحاد الأوروبي، الذي طالما تبنى نهج الحد من الإنفاق العسكري، يجد نفسه اليوم مضطراً للانخراط مجدداً في سباق التسلح، ويُجري حالياً مناقشة رفع ميزانيته الدفاعية من 2% إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وربما أكثر من ذلك.

كما تبحث دول الاتحاد إنشاء صندوق دفاعي مشترك بقيمة 500 مليار يورو لتمويل مشاريع التسليح المشترك وشراء المعدات العسكرية، وذلك من خلال إصدار السندات لزيادة الإنفاق.

 ألمانيا.. كسر قيود التقشف لأول مرة منذ الحرب العالمية الثانية

لطالما التزمت ألمانيا بسياسات مالية صارمة وميزانيات متوازنة، لكنها وجدت نفسها مضطرة لتغيير نهجها لمواجهة التحديات الأمنية، وفي عام 2025، وافق البرلمان الألماني على تخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش، إضافةً إلى 500 مليار يورو لمشاريع البنية التحتية والمناخ.

هذا القرار مثّل تحولاً جذرياً في السياسة المالية الألمانية، حيث تم تعديل الدستور للسماح بالاستدانة من أجل تمويل النفقات الدفاعية، وهي خطوة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية.

فرنسا.. تعزيز القدرات العسكرية والنووية

فرنسا، التي تمتلك أحد أقوى الجيوش في أوروبا، قررت زيادة استثماراتها العسكرية بشكل كبير، وفي مارس 2025، أعلن الرئيس إيمانويل ماكرون عن طلب دفعة إضافية من طائرات رافال المقاتلة، إلى جانب استثمار 1.5 مليار يورو لتحديث قواعدها العسكرية وتعزيز قدراتها النووية الرادعة.

إلى جانب ذلك، تسعى فرنسا إلى توسيع برامج تطوير الأسلحة المتقدمة، مع التركيز على الابتكار التكنولوجي في مجال الدفاع لضمان الجاهزية لمواجهة أي تهديدات مستقبلية.

بولندا.. أعلى إنفاق عسكري في أوروبا

بولندا كانت من أوائل الدول التي رفعت إنفاقها الدفاعي استجابة للتطورات الجيوسياسية، وفي عام 2024، خصصت وارسو 4.1% من ناتجها المحلي الإجمالي للإنفاق العسكري، وهو أعلى مستوى في الاتحاد الأوروبي، ومن المتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 5% خلال العام الجاري، في ظل استمرار المخاوف الأمنية بشأن روسيا.

حتى سويسرا تتخلى عن حيادها

ولم يقتصر هذا التوجه على الدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي فحسب، بل امتد ليشمل دولاً كانت تاريخياً محايدة، مثل سويسرا.

ففي تحول مفاجئ، بدأت سويسرا، المعروفة بحيادها السياسي والعسكري، في مراجعة سياستها الدفاعية، إذ دعا وزير الدفاع السويسري الجديد إلى تعزيز التعاون مع الناتو ودول الاتحاد الأوروبي، مؤكداً أن الحياد لم يعد يعني العزلة، بل يتطلب قدرة عسكرية كافية لحماية البلاد في ظل المتغيرات الأمنية العالمية.

كيف ستُموّل أوروبا سباق التسلح؟

مع ارتفاع الإنفاق الدفاعي، تجد الحكومات الأوروبية نفسها في موقف صعب من الناحية المالية، في حين أن بعض الدول لديها القدرة على الاستدانة لتمويل التحديثات العسكرية، فإن دولاً أخرى تعاني بالفعل من ارتفاع مستويات الدين العام والعجز في الميزانية، ما يجعل تمويل سباق التسلح أكثر تعقيداً.

أمام الدول الأوروبية خياران رئيسيان:

1. زيادة الاقتراض، ما قد يؤدي إلى ارتفاع مستويات الدين العام ويثير قلق المستثمرين وسوق السندات.

2. تقليص الإنفاق العام، ما قد يؤثر على برامج الحماية الاجتماعية ويؤدي إلى احتجاجات شعبية واسعة.

في فرنسا، على سبيل المثال، أدى تعديل نظام التقاعد عام 2023، الذي كان من المتوقع أن يوفّر 18 مليار يورو سنوياً، إلى احتجاجات عارمة واضطرابات سياسية، وهذا يوضح مدى حساسية أي قرارات تتعلق بتخفيض الإنفاق الاجتماعي.

بين الأمن والحماية الاجتماعية.. هل هناك حل وسط؟

يبدو أن أوروبا تقف اليوم أمام خيارين كلاهما صعب؛ تعزيز قدراتها الدفاعية لمواكبة التغيرات الجيوسياسية، أو الحفاظ على أنظمة الحماية الاجتماعية التي بنتها على مدار عقود.

البعض يرى أن الحل يكمن في استراتيجية متوازنة تجمع بين زيادة الإنفاق الدفاعي وتحقيق إصلاحات اقتصادية مستدامة، بدلاً من اللجوء إلى تخفيضات حادة في ميزانيات الحماية الاجتماعية، لكن تحقيق هذا التوازن لن يكون سهلاً، خاصة مع استمرار التحديات المالية والاقتصادية التي تواجهها القارة.

 مستقبل أوروبا في الميزان

مع استمرار سباق التسلح، تبدو السنوات القادمة حاسمة لمستقبل أوروبا، ما سيحدث خلال العقد المقبل سيحدد، ليس فقط قدرة القارة على الدفاع عن نفسها، بل أيضاً مدى قدرتها على الحفاظ على نمط الحياة الذي اعتاد عليه مواطنوها.

إذا استمر الضغط الأميركي، وارتفعت التهديدات الأمنية، فقد تتجه أوروبا إلى عسكرة اقتصاداتها بشكل أكبر، ما سيعيد تشكيل القارة سياسياً واجتماعياً، أما إذا تمكنت من تحقيق توازن بين الأمن والحماية الاجتماعية، فقد تنجح في الحفاظ على استقرارها دون التضحية بمكاسبها الاجتماعية.

في النهاية، يبقى السؤال الأهم؛ هل تستطيع أوروبا مواجهة التحديات الأمنية المتزايدة دون التخلي عن القيم التي جعلتها واحدة من أكثر القارات رفاهية واستقراراً في العالم؟