بريتش بيتروليوم BP شركة النفط البريطانية الفارسية.. النمو والكارثة والنمو مجدداً

بريتش بيتروليوم BP شركة النفط البريطانية الفارسية.. النمو والكارثة والنمو مجدداً

البذرة الأولى: كيف غيّر اكتشاف نفطي في الشرق الأوسط مسار التاريخ

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

بدأت قصة بي بي في الصحراء الإيرانية، حيث قاد المستثمر البريطاني وليام نوكس دارسي مغامرة محفوفة بالمخاطر للتنقيب عن «الذهب الأسود». وفي مايو 1908، وبعد سنوات من البحث المضني والنفقات الباهظة التي كادت تدفع دارسي إلى الإفلاس، تفجر النفط من البئر في منطقة مسجد سليمان، معلناً بداية عصر جديد.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

تأسست «شركة النفط الأنجلو-فارسية» رسمياً في 14 أبريل 1909، بدعم من الحكومة البريطانية التي أدركت الأهمية الاستراتيجية للنفط في عالم كان يتحول بسرعة من الفحم إلى الوقود السائل. ومع بناء مصفاة عبادان عام 1912، التي كانت الأكبر في العالم آنذاك، بدأت الشركة بتصدير النفط إلى الأسواق العالمية.

خلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، لعبت الشركة دوراً محورياً في تزويد البحرية الملكية البريطانية بالوقود، ما أكد أهميتها الاستراتيجية وضمن لها دعماً حكومياً قوياً.

وبحلول نهاية هذه الفترة، كانت الشركة قد وضعت حجر الأساس لإمبراطورية نفطية ستغيّر وجه الصناعة العالمية.

من شركة محلية إلى قوة عالمية: فصول التوسع الدرامي

مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، دخلت الشركة مرحلة توسع طموحة. تحت قيادة السير جون كادمان، بدأت الشركة ببناء شبكة توزيع متكاملة في أوروبا، وأسست محطات وقود تحت علامتها التجارية المميزة باللونين الأخضر والأصفر.

في عام 1935، غيّرت الشركة اسمها إلى «شركة النفط الإنجليزية الإيرانية» (AIOC)، تماشياً مع تغيير اسم إيران من «فارس».

وخلال هذه الفترة، استثمرت الشركة بكثافة في البنية التحتية في إيران، بما في ذلك مستشفيات ومدارس ومرافق سكنية لموظفيها، ما خلق مدناً نفطية مزدهرة في مناطق كانت صحراوية من قبل.

مع اندلاع الحرب العالمية الثانية، عادت الشركة لتلعب دوراً حيوياً في تزويد قوات الحلفاء بالوقود. كان نفط إيران شرياناً حيوياً للمجهود الحربي البريطاني، الذي حاولت قوات المحور استهدافه مراراً.

وطوّرت الشركة تقنيات جديدة لزيادة الإنتاج وتحسين كفاءة النقل، ما عزّز قدراتها التقنية والإدارية.

بحلول نهاية الأربعينيات، كانت الشركة تسيطر على إحدى أكبر عمليات النفط في العالم، ولكن هذا النجاح كان يخفي وراءه توترات متزايدة مع الحكومة الإيرانية حول توزيع الأرباح والسيادة الوطنية على الموارد الطبيعية.

صراع النفوذ: كيف هزّت أزمة التأميم عرش البترول البريطاني

في لحظة فارقة من تاريخ صناعة النفط العالمية، أعلن رئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق في مارس 1951 تأميم أصول الشركة جميعها في إيران. كان هذا القرار بمثابة زلزال هزَّ أركان الشركة، وأطلق أزمة دولية كبرى بين إيران وبريطانيا.

ردت بريطانيا بفرض حصار اقتصادي على إيران، ومنع تصدير النفط الإيراني، ما أدّى إلى انهيار اقتصادي في البلاد.

وفي عام 1953، وبدعم من وكالة المخابرات المركزية الأميركية والاستخبارات البريطانية، تمت الإطاحة بحكومة مصدق في انقلاب أعاد الشاه محمد رضا بهلوي إلى السلطة.

في أعقاب هذه الأحداث، تم التوصل إلى اتفاق عام 1954 أدّى إلى إنشاء «اتحاد النفط الإيراني»، وهو كونسورتيوم دولي تمتلك فيه الشركة (التي أعيدت تسميتها إلى «شركة النفط البريطانية» أو BP) حصة كبيرة، لكنها فقدت سيطرتها الحصرية على النفط الإيراني.

هذا الدرس القاسي دفع بي بي إلى إعادة تقييم استراتيجيتها، والبحث عن مصادر نفط جديدة.

وفي الستينيات، حققت الشركة اكتشافات هائلة في ليبيا، ثم في بحر الشمال وألاسكا، ما ساعدها على تنويع مصادر إنتاجها وتقليل اعتمادها على منطقة الشرق الأوسط المضطربة.

من أزمة إلى أخرى: كيف تحولت بي بي من شركة بريطانية إلى عملاق متعدد الجنسيات

السبعينيات كانت عقداً مليئاً بالتحديات لبي بي. بدأت بتأميم أصولها في العراق عام 1972، ثم جاءت أزمة النفط العالمية عام 1973 إثر حرب أكتوبر، ما أدّى إلى ارتفاع هائل في أسعار النفط وتغييرات جذرية في الصناعة، لكن بي بي حوّلت هذه التحديات إلى فرص من خلال تطوير حقول النفط العملاقة التي اكتشفتها في بردو باي بألاسكا وفورتيز في بحر الشمال.

في عام 1978، بدأ إنتاج النفط من خط أنابيب ترانس ألاسكا، وهو إنجاز هندسي ضخم استثمرت فيه بي بي بكثافة. هذا المشروع، الذي اكتمل رغم التحديات البيئية والتقنية الهائلة، أصبح رمزاً لقدرة الشركة على التكيف مع الظروف القاسية والمتطلبات المتغيرة.

وفي الثمانينيات، خفّضت الحكومة البريطانية تدريجياً حصتها في بي بي حتى باعتها بالكامل عام 1987، ما حوّل الشركة إلى كيان خاص بالكامل، كما شهد هذا العقد توسع الشركة في قطاع الكيماويات والغاز الطبيعي، سعياً وراء تنويع أنشطتها.

التسعينيات شهدت تحولاً استراتيجياً نحو العولمة تحت قيادة الرئيس التنفيذي السير جون براون. في عام 1998، حدث اندماج تاريخي بين بي بي وشركة أموكو الأمريكية بقيمة 48.2 مليار دولار، وهو ما كان آنذاك أكبر اندماج في تاريخ الشركات. تبع ذلك الاستحواذ على شركة أركو الأمريكية في عام 2000 بقيمة 27 مليار دولار، ما عزّز وجود بي بي في السوق الأميركية وحوّلها إلى إحدى أكبر شركات النفط في العالم. في عام 2000، أطلقت الشركة شعارها الجديد «ما وراء البترول» (Beyond Petroleum)، في إشارة إلى نيتها للتحول نحو مصادر طاقة أكثر استدامة.

كارثة لا تُنسى: القصة الكاملة لانفجار «ديب ووتر هورايزون» وتبعاته الوخيمة

في مساء يوم 20 أبريل 2010، تحوّل الهدوء في منصة الحفر «ديبووتر هورايزون» التابعة لشركة بي بي في خليج المكسيك إلى جحيم من النيران والدمار عندما انفجرت بئر النفط ماكوندو. أودى الانفجار بحياة 11 عاملاً، وأصيب 17 آخرون، وغرقت المنصة بعد 36 ساعة من محاولات السيطرة على الحريق.

لكن الكارثة الحقيقية كانت قد بدأت للتو. تدفق النفط بمعدل يُقدّر بنحو 60 ألف برميل يومياً من البئر الموجودة على عمق 1,500 متر تحت سطح البحر. استمر التسرب لمدة 87 يوماً، حتى تم أخيراً إغلاق البئر في 15 يوليو، بعد فشل العديد من المحاولات السابقة.

بلغت الكمية الإجمالية للنفط المتسرب نحو 4.9 مليون برميل، ما جعلها أسوأ كارثة تسرب نفطي بحري في التاريخ. وامتد التلوث النفطي على مساحة تُقدّر بـ180,000 كيلومتر مربع، وتأثر به أكثر من 1,600 كيلومتر من السواحل في خمس ولايات أميركية: لويزيانا، ميسيسيبي، ألاباما، فلوريدا، وتكساس.

أدّت الكارثة إلى أضرار بيئية هائلة، حيث قتلت آلاف الطيور والسلاحف البحرية والثدييات البحرية، ودمرت الشعاب المرجانية والأراضي الرطبة، كما تضررت بشدة صناعات الصيد والسياحة المحلية، ما تسبب في خسائر اقتصادية فادحة للمجتمعات الساحلية.

واجهت بي بي انتقادات لاذعة بسبب ما اعتُبِر إهمالاً في اتباع إجراءات السلامة وضعف استجابتها الأولية للكارثة. زاد الوضع سوءاً بسبب تصريحات الرئيس التنفيذي توني هايوارد، خاصة عندما قال «أريد استعادة حياتي» في مقابلة تلفزيونية، ما أثار غضباً شعبياً واسعاً.

في النهاية، اضطرت بي بي لدفع أكثر من 65 مليار دولار في تكاليف التنظيف والتعويضات والغرامات القانونية، بما في ذلك تسوية بقيمة 20.8 مليار دولار مع الحكومة الأميركية عام 2015، وهي أكبر تسوية بيئية في تاريخ الولايات المتحدة، كما أدّت الكارثة إلى إصلاحات تنظيمية واسعة في صناعة النفط البحرية، وتغييرات جذرية في ثقافة السلامة داخل بي بي نفسها.

ثورة خضراء أم تسويق ذكي؟ كيف تحاول بي بي إعادة اختراع نفسها في عصر تغيّر المناخ

في أعقاب كارثة ديبووتر هورايزون، واجهت بي بي تحدياً وجودياً. كان عليها ليس فقط إصلاح سمعتها المتضررة بشدة، ولكن أيضاً إعادة تعريف نفسها في عالم بدأ يتحول بسرعة نحو الطاقة النظيفة والاستدامة البيئية.

تحت قيادة الرئيس التنفيذي الجديد بوب دادلي، الذي حل محل توني هايوارد بعد الكارثة، بدأت الشركة إجراء تغييرات هيكلية جذرية؛ تم تقسيم قسم التنقيب والإنتاج إلى وحدات منفصلة، وإنشاء قسم جديد مخصص للسلامة والمخاطر التشغيلية، واستثمرت الشركة مليارات الدولارات في تحسين إجراءات السلامة وتدريب الموظفين ومراقبة العمليات.

في عام 2015، أعلنت بي بي دعمها لاتفاقية باريس للمناخ، وبدأت بزيادة استثماراتها في الطاقة المتجددة تدريجياً. ومع تولي برنارد لوني منصب الرئيس التنفيذي عام 2020، أعلنت الشركة استراتيجية طموحة للتحول، متعهدة بتحقيق صافي انبعاثات صفرية بحلول عام 2050.

تضمنت هذه الاستراتيجية خطة لخفض إنتاج النفط والغاز بنسبة 40% بحلول عام 2030، وزيادة الاستثمار في الطاقة المتجددة من 500 مليون دولار سنوياً إلى 5 مليارات دولار سنوياً بحلول عام 2030.

واستحوذت الشركة على شركات رائدة في مجال الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ودخلت في شراكات لتطوير تقنيات احتجاز الكربون والهيدروجين منخفض الكربون.

رغم هذه الخطوات، لا يزال هناك تشكيك واسع من النشطاء البيئيين والمستثمرين حول مدى جدية التزام بي بي بهذا التحول.

وينتقد البعض ما يرونه تناقضاً بين الخطاب المؤيد للمناخ واستمرار الاستثمارات الكبيرة في التنقيب عن النفط والغاز. في المقابل، يضغط مساهمون آخرون على الشركة للاحتفاظ بنموذج أعمالها المربح في مجال الوقود الأحفوري.

تواجه بي بي اليوم تحدياً مزدوجاً: الحفاظ على ربحيتها في الوقت الحاضر من خلال أعمالها التقليدية في النفط والغاز، مع الاستثمار بكثافة في مستقبل منخفض الكربون غير مؤكد بعد.. إنها معادلة صعبة تعكس التحديات التي تواجهها صناعة الطاقة العالمية بأكملها في عصر تغيّر المناخ.

بين التراث والمستقبل: أين تقف بي بي اليوم في المشهد العالمي المتغير؟

اليوم، تقف بي بي على مفترق طرق تاريخي. بعد أكثر من قرن من الهيمنة في عالم النفط، تسعى الشركة لإعادة تعريف نفسها في عصر التحول الطاقي العالمي.

وتعمل الشركة حالياً في أكثر من 70 دولة، وتوظف نحو 70,000 شخص، وتحقق إيرادات سنوية تبلغ عشرات المليارات من الدولارات.

تمتلك بي بي محفظة متنوعة من الأصول تشمل:

  • عمليات التنقيب والإنتاج للنفط والغاز في خمس قارات.
  • شبكة من المصافي ومحطات الوقود تحت علاماتها التجارية المختلفة.
  • منشآت للبتروكيماويات وتكرير النفط.
  • محطات طاقة شمسية ومزارع رياح متنامية.
  • استثمارات في شحن وتوزيع الغاز الطبيعي المسال.
  • مشاريع للهيدروجين واحتجاز الكربون.

في السنوات الأخيرة، تبنت الشركة استراتيجية قائمة على فكرة أن مستقبل الطاقة سيكون «منخفض الكربون، ومتنوع، وإلكتروني». نتيجة لذلك، أعادت هيكلة أقسامها التنظيمية لتعكس هذا التوجه الجديد، مع التركيز على ثلاثة محاور: «الغاز والطاقة المنخفضة الكربون»، «التنقيب والإنتاج»، و«التكرير والبتروكيماويات».

على الرغم من هذا التحول، لا تزال بي بي تواجه انتقادات من أطراف متعددة.

ويرى النشطاء البيئيون أن جهودها لا تزال غير كافية لمواجهة أزمة المناخ، بينما يشعر بعض المستثمرين بالقلق من أن تحولها السريع قد يكون على حساب الأرباح. في الوقت نفسه، تواجه الشركة منافسة شرسة من شركات النفط التقليدية ومن الشركات الجديدة المتخصصة في الطاقة المتجددة.

رغم هذه التحديات، تمتلك بي بي ميزات تنافسية مهمة: خبرة تقنية متراكمة عبر قرن من الزمن، وقدرة هائلة على تنفيذ مشاريع ضخمة ومعقدة، وبنية تحتية عالمية، وموارد مالية كبيرة. هذه الأصول يمكن أن تساعدها على النجاح في التحول، كما نجحت في الماضي في التكيُّف مع التغييرات الجذرية في السوق.

القصة المستمرة لشركة بي بي -من حفارة مغامرة في صحراء إيران إلى شركة طاقة عالمية متنوعة- تعكس تاريخ صناعة الطاقة بأكملها، بكل نجاحاتها وإخفاقاتها وتحدياتها المستقبلية. ما إذا كانت الشركة ستنجح في إعادة اختراع نفسها مرة أخرى في عصر التحول الطاقي هو سؤال سيجيب عنه الزمن وحده.