عالم الأعمال يتغير بسرعة، وتسعى الشركات باستمرار إلى إيجاد طرق مبتكرة تضمن استمراريتها وتنافسيتها. وتحت وطأة الضغوطات الجيوسياسية التي تهدد سلاسة الإمدادات إلى السياسات الحمائية وزيادة التعريفات الجمركية وصولاً إلى تفضيل المستهلكين المنتجات المصنعة محلياً، لجأت الشركات العالمية لا سيما العملاقة منها إلى استراتيجية النيرشورنغ أو ما يعرف بنقل عمليات الإنتاج والاستثمار إلى الدول القريبة جغرافياً، بدعم من الحكومات وبخطط صناعية جاذبة للاستثمارات.
وتبرز طموحات دول أوروبية وآسيوية وشرق أوسطية، بجانب المكسيك التي لعبت دوراً ريادياً واستطاعت في فبراير شباط 2024 التغلب على الصين في صادراتها للسوق الأميركية، للعب دور أساسي في هذا المجال.
ويقول هيرنان ساينز -شريكٌ في شركةِ بين آند كومباني الشرق الأوسط- لـ«CNN الاقتصادية» إن هناك تحولاً كبيراً في سلاسل الإمداد، والشركات تتدارك اليوم عدم فعالية نموذج الأعمال القديم وأنها لن تكون قادرة على المنافسة إذا استمرت في اتباعه، مرجحاً ميول دفة الميزان إلى سلاسل الإمداد القصيرة، والإقليمية القادرة على تتبع مسار البضائع وتوفير رؤية واضحة للمخزون والنشاط والمزيد من المرونة لصمود سلاسل الإمداد، هذا إلى جانب استدامة سلاسل الإمداد وتكاملها مع الاقتصاد الدائري.
ولفت ساينز إلى أن الحكومات تتدارك أهمية الاستثمار في الأسواق القريبة ودعم الصناعة من خلال خلق نظم بيئية وسياسات صناعية متكاملة.
وكشف ساينز أن أكثر من نصف الشركات تخطط إلى توسيع سلاسل إمداداتهم بحلول العام 2025 بهدف تقليل الاعتماد على مراكز التصنيع البعيدة والاستجابة المرنة للتحديات الجيوسياسية والاضطرابات والضغوطات الاقتصادية.
ضغوطات سلاسل الإمداد
موجة من الصدمات تعرضت لها التجارة العالمية مؤخراً، بدءاً من إعادة توجيه ممرات الشحن بسبب أزمة البحر الأحمر التي رفعت من تكلفة الشحن البحري الذي يشكل 90 في المئة من حركة التجارة العالمية، مروراً بحرب أوكرانيا والعقوبات على الشركات الروسية التي تسببت في تخارج مشترك من السوق الروسية والأوروبية، ووصولاً إلى توتر العلاقات الصينية الأميركية التي زادت من متوسط التعريفات الجمركية على تجارة السلع بين الصين والولايات المتحدة بين ثلاثة وستة أضعاف منذ عام 2017.
لذلك لجأت كبريات الشركات إلى التحوط من خلال تأمين إمداداتهم والحفاظ على أسواقهم، مثل أبل وتسلا وبي وي دي وجنرال موتورز وزارا وإنتل وغيرها، باللجوء إلى استراتيجيات النيرشورنغ لكونها توفر تكاليف الإنتاج والعمالة وتقلص زمن التسليم وتسهل التواصل الثقافي.
وفق تقرير CBRE عن سلاسل التوريد، غالباً ما تمثل تكاليف النقل ما بين 50% و70% من الإنفاق اللوجستي للشركة، ما يطغى على نفقات المرافق الثابتة التي تمثل، بما في ذلك تكلفة العقارات، 3% إلى 6% فقط، وباعتماد سياسة القرب الاقتصادي توفر الشركات عادة بين 20 و40 في المئة من النفقات التشغيلية وتضمن قرب الأعمال من المستهلك النهائي.
وقال هاري كيران _الرئيس التنفيذي في أتش آر في HRV life science & NHG Pharma_ إن التحولات الاقتصادية حول التنوع تلعب دوراً أساسياً في مفهوم النيرشورنغ بالنسبة للشركات التي تأخذ بعين الاعتبار التغييرات التكنولوجية لتحسين فاعلية الإنتاج من خلال استخدام الروبوتات والأتمتة وشفافية سلاسل الإمداد واستخدام البلوكتشين لمراقبة وتتبع السلسلة في الوقت الحالي real time وضمان أمن وسلامة سلاسل الإمداد.
وشدد على أن المعيار الأول للشركات في اختيار إما الدولة المستضيفة أو الشريك الاستراتيجي يبقى وجوده في المنطقة الزمنية نفسها، الأمر الذي يسهل عمليات التواصل.
اتجاهات الاستثمار الصناعي
وأفاد هيرنان ساينز بأن الاتجاه اليوم هو نحو التنوع في آسيا والمحيط الهادئ وتحول الاستثمار الصناعي نحو فيتنام وإندونيسيا وماليزيا وتايلاند والهند، ويتمثل التوجه في السوق الأميركية والأوروبية في وجهين، الأول هو إعادة الاستثمار إلى الموطن الرئيسي، والثاني هو الاستثمار في الأسواق القريبة.
ولفت إلى تباطؤ وتيرة التحول في أوروبا عازياً ذلك إلى أسعار الوقود وحرب أوكرانيا وأضاف أن الدوافع إلى اعتماد استراتيجية الاستثمار في الأسواق القريبة تطبق على العالم أجمع وأن اعتماد النيرشورنغ لم يعد خياراً حسابياً بل خياراً استراتيجياً ولكنه أكثر تعقيداً.
وشرح أن معادلة النيرشورنغ في الماضي كانت تعتمد على أربعة معايير، تكلفة جيدة للعمالة وتكلفة جيدة ووقت مثالي للشحن وتوافر نظام بيئي أوسع والاستقرار السياسي والاقتصادي والتنظيمي «لكن اليوم تضاف معايير جديدة وهي المرونة والاستدامة والامتثال للقوانين» معرباً عن تغيير في سلوكيات المستهلكين حيث أصبحت تفضيلات العملاء إقليمية أو وطنية وليس عالمية فقط.
فرص واعدة للشرق الأوسط
تبرز كل من المغرب ومصر وتونس وجهات أساسية للاستثمار الصناعي المباشر من قبل الشركات العالمية، وتصدرت المغرب ومصر المراكز الخمسة الأولى في الاستثمار الصناعي المباشر وفق أف دي آي إنتلجنس في العام الماضي.
ويزخر الشرق الأوسط بموقع جغرافي استراتيجي وتنافسية في تكلفة العمالة وتطوير للبنى التحتية من موانئ ومطارات وممرات تجارية حيث تسعى العديد من الدول إلى إنشاء مناطق اقتصادية أو صناعية وتحديثها تكنولوجياً لكن يبقى عامل الاستقرار السياسي والاقتصادي الشرط الأساسي لتنمية هذا القطاع.
وأفاد كيران بأن المغرب تلعب دوراً أكثر قوة من مصر على هذا الصعيد، فمصر تعترضها تحديات، لا سيما تلك المتعلقة بالعملة والاستقرار السياسي والاقتصادي لافتاً إلى أن فرصاً واعدة يكتنزها الشرق الأوسط، خاصة مع «إعلان عمان وقطر وحتى السعودية الاستفادة من المحتوى المحلي، ما يعني أن أي شخص يرغب في جلب المنتجات إلى هذه المنطقة وبيعها سيخضع للتعريفات الجمركية التي يجب أخذها في الاعتبار وبذلك ستكون سياسة النيرشورنغ فرصة للشركات للاستثمار المباشر في هذه الأسواق أو من خلال شراكات استراتيجية»
وأشار كيران إلى إحدى الأشياء المهمة، وهي أن «معظم مؤسسات التصنيع في دول الخليج ما لم تكن قطاعاً تصنيعياً محدداً للغاية لا تعمل بكامل طاقتها، وهناك إمكانية لإبرام اتفاقيات لاستخدام هذه القدرات والبدء فعلياً في الاستفادة من الاستثمارات الموجودة»
مفتاح النمو الابتكار
وبرأي هيرنان ساينز يتمتع الشرق الأوسط بحكم موقعه الجغرافي القريب من أوروبا بميزة تفاضلية كما أن إنشاء الممرات التجارية يجعله مركزاً طبيعياً للنيرشورنغ للسوق الأوروبية، ولكن على ذلك أن يترافق مع أربعة معايير أساسية «يد عاملة قوية لدعم الصناعة والوصول إلى أسعار منخفضة من الطاقة والمنطقة تتمتع بذلك ونحتاج إلى خلق نظام بيئي متكامل للموردين ولمختلف القطاعات الصناعية واستقرار السياسات الصناعية».
ونصح الدول بضرورة التفكير بطرق جديدة لاستقطاب الاستثمارات بطريقة فعالة كالبنى التحتية الرقمية والخدمات الرقمية والاقتصاد الدائري ومعايير الاستدامة، ويبقى الأهم برأيه هو اختيار القطاعات التي تريد الدول التميز فيها لأن هذا ما جعل النموذج المكسيكي ناجحاً.