لعل شركة أبوظبي لطاقة المستقبل « مصدر» هي إحدى التجارب الناجحة التي تمت في مدينة مصدر لتصبح اليوم فاعلة ومؤثرة في أكثر من 40 دولة حول العالم، وتمتلك أكثر من 20 إلى 25 غيغاواط من أصول الطاقة المتجددة حول العالم هكذا استشهد أحمد باقحوم، الرئيس التنفيذي لمدينة مصدر، في حديثه في مع الـCNN الاقتصادية ليعكس مدى التأثير الذي تحققه مدينة مصدر المستدامة في كونها حاضنة للابتكار ومساهماً رئيسياً في «البحث عن طرق مبتكرة لتطوير تقنيات مختلفة تخدم المستقبل».

بين العراقة والحداثة

ليست التكنولوجيا وحدها مفتاح الاستدامة فرغم دورها الحيوي في التنمية الحضرية، فإن الاستدامة تبدأ بالتصميم.

تم بناء مدينة مصدر باستخدام التصميم السلبي، وهو نهج معماري يعمل بالتوازي مع البيئة بهدف تحقيق الإفادة المثلى من كفاءة الطاقة والمياه قبل تنفيذ الحلول التكنولوجية، ووفر ذلك للمدينة أسلوب حياة وبرودة أقل بعشر درجات من وسط مدينة أبوظبي.

كما تم تصميم المباني -الحاصلة على الشهادات البلاتينية أو الذهبية وفق نظام الريادة في تصميمات الطاقة والبيئة (LEED)- «لتقليل اكتساب الطاقة الشمسية مع نسب مثالية من النافذة إلى الواجهة ومغلفات محكمة الإغلاق وعزل من الدرجة الأولى، كما أن النوافذ موجهة على زاوية محددة لتقليل أشعة الشمس المباشرة، وهذا يؤدي إلى انخفاض كبير في الحاجة إلى تكييف الهواء كثيف الطاقة».

وأفاد باقحوم بأن العنصر الرئيسي الذي يدخل في تكوين مدينة مصدر هو الجمع بين العراقة والتقنيات الحديثة واستخلاص تجارب المدن القديمة في الجزيرة العربية والشرق الأوسط مثل حلب وشبام في اليمن والمشربيات المصرية وكيفية تحديها عناصر البيئية والمناخ.

وأضاف أن المباني في مدينة مصدر تتمتع بتصميمات ذكية تسهم في تقليل استهلاك الطاقة والمياه، بالإضافة إلى استخدام مواد بناء محلية ومنخفضة الكربون.

ومكَّن هذا الجمع بين التقنية والبيئة من توفير أسلوب حياة صحي وأكثر استدامة للسكان والزوار حسب باقحوم.

اكتفاء ذاتي

رغم أن المدن والتوسع الحضري يشغل 2 في المئة من مساحة الأرض فإن تقرير برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية يشير إلى مساهمتها بنحو 70 في المئة من الانبعاثات الكربونية العالمية بسبب اعتمادها على طاقة الوقود الأحفوري في التنقل والمباني والصناعات.

ويساعد اعتماد المدن على مصادر الطاقة المتجددة وتبنيها استراتيجيات خضراء في تقليل الانبعاثات الضارة بنسب تتراوح بين 40 و70 في المئة وفق وكالة الطاقة الدولية -التي تتخذ من مدينة مصدر مقراً إقليمياً لها.

وتعتمد مدينة مصدر في استهلاك الطاقة على محطة للطاقة الشمسية بقدرة إنتاجية تبلغ 10 ميغاواط، وكانت الرائدة في اعتماد التنقل الذكي والمستدام، وفق تقرير الشركة حول الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية للعام 2023 تم خفض استهلاك الطاقة بنسبة 30.6 في المئة وخفض استهلاك المياه القابلة للشرب بنسبة 18.3في المئة وتحويل النفايات بعيداً عن المطامر والمكبات بنسبة 57 في المئة.

وكشف محمد البريكي المدير التنفيذي للتنمية المستدامة أن مبنى NZ1 الصفري الطاقة الذي أطلق العام الماضي بالتزامن مع كوب 28 سيخصص ليكون «بيو بنك» خاصاً للاستخدامات الطبية ودعم التكنولوجيا الصحية.

وأفاد البريكي بأن مشروع محطة للطاقة الشمسية الكهروضوئية بقدرة إنتاجية تبلغ 7 ميغاواط الذي يطور بالتعاون مع – «خزنة داتا سنتر» الحاصلة على تصنيف 4 لآلئ من برنامج الاستدامة والمتواجدة في المدينة- هو في مرحلة التصميم والإعدادات وسيبدأ العمل به مطلع العام المقبل لينجز خلال سنتين، الأمر الذي سيمكن قطاع الصناعة، ويساعد الشركات في تخفيض التكاليف التشغيلية والحد من بصمتها الكربونية.

المستقبل بدعم المواهب

توفر مدينة مصدر من خلال المنطقة الحرة ومراكز البحوث والجامعات لديها بيئة راعية للابتكار وللمشاريع الناشئة من خلال تسهيلات وتحفيزات وشراكات استراتيجية مع جهات عالمية في مجالات حيوية كالذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة وتكنولوجيا الزراعة وعلم الفضاء والصحة وفق محمد البريكي.

واستقطبت المدينة لغاية اليوم نحو 1200 شركة بإجمالي استثمارات وصلت قيمتها إلى 15 مليار دولار وفق باقحوم الذي شدد على أهمية وجود جامعة محمد بن زايد في المدينة، الذي يشكل دعامة أساسية لبناء العنصر البشري ودعم الشركات بالبحوث والتطوير خاصة وأنه بات العمود الفقري لكل القطاعات.

ولفت باقحوم أن جمع البيانات والمعلومات يتم عبر مركز الذكاء الاصطناعي الذي يجمع 3000 بيان يومي يستشعر من خلالها كل البيانات المتعلقة بالأداء البيئي والاجتماعي للمدينة بهدف تطوير وتحسين الأداء المستقبلي.

تحديات وتوسعات

رغم أن مدينة مصدر تعتبر قصة نجاح في مجال الاستدامة، فإن التحديات لا تزال قائمة، أبرز هذه التحديات هو التوسع المستقبلي للمدينة كما أعرب باقحوم بهدف تلبية الطلب المتزايد على المباني حيث تم إشغال الطاقة الاستيعابية بالكامل (99 %).

وتوسع مدينة مصدر 120 ألف متر مربع من المباني السكنية والمكتبية والخدمية إلى جانب «مربع مصدر» MC2 الممتد على مساحة 50 ألف متر مربع والذي ينتهي العمل به في الربع الأول من السنة المقبلة ومشروع «ذا لينك» الذي هو أول مبنى سكني ومكان عمل مشترك على صعيد المنطقة بمساحة 30 ألف متر مربع ينجز خلال الربع الثالث من 2025.

وكشف أن التركيز سيكون على 6 محاور أساسية هي الاقتصاد الدائري واقتصاد إمارة أبوظبي من ناحية الرعاية الصحية والأبحاث والذكاء الاصطناعي والطاقة والزراعة ووفرة المياه.

وتعمل مدينة مصدر على مشروعين أساسين هما مشروع «سافي» للتنقل الذكي والمستدام ومشروع اكوا الخاص بالزراعة ووفرة المياه وأضاف أن المدينة هي «مثال حي ومستدام ومصغر للمدن الموجودة حول العالم».

ويبقى التحدي الأبرز برأي البريكي هو بناء الكفاءات والخبرات والكوادر الوطنية من أجل الوصول إلى استخدام محلي للمواهب والخبرات والمواد المطلوبة بدلاً من القيام باستيرادهم.