في عالم يتغيّر كل يوم على شتى الأصعدة، تضاهي أهمية القمم الأمنية شأناً نظيراتها الاقتصادية أو التكنولوجية، لا؛ بل تتعدّاها في أحيان كثيرة، لأنها تمثّل الأساس الذي تُبنى عليه استراتيجيات التنمية والاستقرار.. فلا يمكن لأي اقتصاد أن ينمو ويزدهر، ولا لأي تقنية أن تُحدث تغييراً وأثراً فعلياً، دون بيئة آمنة تحمي المجتمعات وتحفظ سيادة القانون.
ومن هذا المنطلق، اكتسبت النسخة الرابعة من القمة الشرطية العالمية، التي استضافتها دبي بين 13 و15 مايو 2025، أهمية خاصة في سياق إقليمي ودولي تتزايد فيه التحديات الأمنية، وتتداخل فيه الجريمة مع التحولات التقنية والاقتصادية والاجتماعية.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
جاءت هذه الدورة من القمة بمقاربة موسعة، من خلال 12 مساراً تخصصياً، تمثل أبرز محاور العمل الأمني في العصر الراهن، بدءاً من مكافحة غسل الأموال، مروراً بالأمن السيبراني، وانتهاءً بتطوير الكفاءات الشرطية الناشئة. ويعكس هذا التنوع رغبة القائمين على القمة في الخروج من الإطار التقليدي للمؤتمرات الأمنية، نحو بناء منصة متخصصة تُعيد قراءة التحديات وفقاً لسياقاتها المختلفة.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
في مسار مكافحة غسل الأموال، ناقش المشاركون الحاجة إلى تكامل الجهود بين القطاعين الأمني والمالي لضبط حركة الأموال غير المشروعة، ومواجهة استخدام الأنظمة المصرفية في تمويل الجريمة المنظمة.. أما مسار الشرطة العابرة للحدود فقد أكد ضرورة تعزيز التنسيق بين الدول في ظل توسّع نطاق الجرائم العابرة، وظهور أشكال جديدة من التهريب والتزوير والاتجار بالبشر.
من جهة أخرى، أخذت القمة في الاعتبار التحولات الرقمية التي يشهدها العالم، من خلال تخصيص ثلاثة مسارات رئيسية تعالج تأثير التقنية على الأمن: "ما بعد التحول الرقمي"، و"الأمن السيبراني والاحتيال الإلكتروني"، و"الذكاء الاصطناعي في العمل الشرطي".. وهذه المسارات تعكس الإدراك المتزايد بأن التهديدات لم تعد محصورة في العالم المادي، بل امتدت إلى الفضاء الرقمي، حيث تواجه المؤسسات الأمنية تحديات حماية البيانات، والتصدي للهجمات الإلكترونية، وتوظيف أدوات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ وتحليل المخاطر.
كما تناول مسارا "الوقاية من الجريمة" و"أمن المرور" قضايا مجتمعية تتطلب نهجاً وقائياً، يقوم على تحليل أنماط السلوك وتطبيق السياسات التوعوية، بهدف الحد من مسببات الجريمة قبل وقوعها.. ويُضاف إلى ذلك مسار "مكافحة المخدرات"، الذي يعالج قضية تمس الأمن الصحي والاجتماعي في آن واحد، ويتطلب استراتيجيات شاملة تربط بين المكافحة والوقاية والعلاج.
أمّا مسار "العمليات الشرطية"، فركّز على تحديث الإجراءات والتكتيكات الميدانية، وتطوير جاهزية أجهزة الشرطة للتعامل مع الأزمات.. وفي السياق ذاته، عالج مسار "تطوير قدرات الشرطة الناشئة" الحاجة إلى بناء جيل جديد من الكوادر الأمنية، قادر على فهم تعقيدات البيئة الأمنية المعاصرة والتعامل معها بمرونة ومسؤولية.
واحتضنت القمة معرضاً دولياً للأنظمة الأمنية شارك فيه أكثر من 200 جهة عارضة من 50 دولة، إضافة إلى جلسات حوارية وورش عمل تطبيقية، وجوائز تكريمية في 12 فئة تكرّم أبرز الإنجازات في مجالات التحقيق، والذكاء الاصطناعي، وخدمة المجتمع.
إن القمة الشرطية في دبي لا تقتصر على عرض تقني أو تبادل خبرات، بل تمثّل محاولة جادة لتقريب المسافة بين التحديات الواقعية والرؤى المؤسسية، من خلال نقاش منفتح ومبني على المعرفة.. وهي بذلك تسهم في تشكيل فهم أوسع لمفهوم الأمن في القرن الحادي والعشرين، القائم على التكامل بين التقنية والقانون والمجتمع والاقتصاد.
في المحصلة، لا يمكن الحديث عن تطور اقتصادي أو اجتماعي دون توفير مناخ أمني مستقر.. ولذلك، تُذكّر القمة الشرطية العالمية في دبي بأن الأمن ليس عائقاً أمام التنمية، بل هو شريكها الأول، وأحد أهم أركان المستقبل.