أدت انبعاثات الغازات الدفيئة إلى ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة على مستوى العالم، الأمر الذي يؤثر بشكل مباشر على حدة موجات الحرارة وتواترها.

على الصعيد العالمي، كانت السنوات الثماني الماضية هي الأعلى حرارة على الإطلاق، وبرزت أوروبا كواحدة من أكثر المناطق الساخنة في هذا الصدد، وتشير التوقعات إلى أن درجات الحرارة سترتفع بمعدل متسارع في القارة الأوروبية ما لم تُتخذ إجراءات فعالة للحد من مخاطر تغير المناخ.

الصحة

ظاهرة ارتفاع الحرارة لها تأثير خطير على الصحة العامة في أوروبا، وفقاً لمنظمة الصحة العالمية.

وجاء في دراسة أجرتها المنظمة عن تأثير الحرارة على الصحة في أوروبا أنّ تأثيرات الحرارة على الجسم تظهر في يوم التعرض للحرارة أو في خلال الأيام الثلاثة التالية، وقد يكون لها تأثير مباشر مثل التسبب في الإجهاد الحراري والجفاف (أو ضربة الشمس)، أو تأثيرات غير مباشرة مثل تفاقم أعراض أمراض القلب، والأوعية الدموية، والجهاز التنفسي، وأمراض الكلى.

الوفاة

توصلت دراسة جديدة إلى أن ما يقرب من 62 ألف شخص في أنحاء القارة الأوروبية لقوا حتفهم بسبب ارتفاع درجات الحرارة العام الماضي خلال الصيف الأشد حرارة في تاريخ القارة على الإطلاق (صيف 2022)، في دليل جديد على أن الحرارة تُعد قاتلاً صامتاً للبشر.

ووجدت دراسة نشرتها مجلة «ناتشر ميدسين» يوم الاثنين، أن 61672 ماتوا في أوروبا بسبب أمراض مرتبطة بالحرارة في الفترة بين 30 مايو أيار و4 سبتمبر أيلول من العام الماضي.

وسجلت إيطاليا وحدها 18 ألف حالة وفاة تقريباً، تلتها إسبانيا بنحو 11 ألفاً، وألمانيا بنحو 8 آلاف حالة وفاة.

وكانت النساء الأكثر تأثراً بارتفاع درجات الحرارة مقارنةً بالرجال في معظم الدول؛ فمن بين الـ62 ألف حالة وفاة المسجلة كان معدل الوفيات المرتبطة بالحرارة بين النساء أعلى بنسبة 63 في المئة منه بين الرجال.

الجفاف

يشهد الجنوب الأوروبي صيفاً شديد الجفاف هذا العام، إذ تعاني العديد من المناطق بالفعل من نقص المياه، ويتوقع المزارعون أسوأ موسم حصاد منذ عقود.

نظراً لأن تغير المناخ يجعل المنطقة أكثر حرارة وجفافاً، أدت سنوات الجفاف المتتالية إلى استنزاف احتياطات المياه الجوفية، إذ أصبحت التربة شديدة الجفاف في إسبانيا وجنوب فرنسا، كما انخفضت مستويات الأنهار والخزانات، الأمر الذي يهدد إنتاج الطاقة الكهرومائية هذا الصيف.

وسجلت فرنسا موسم الشتاء الأكثر جفافاً منذ عام 1959، في حين يضرب الجفاف نحو 90 في المئة من مساحة اليابسة في البرتغال، أما في إسبانيا فيعتمد آلاف السكان على توصيل شحنات المياه مع تراجع معدل هطول الأمطار إلى النصف حتى أبريل نيسان، وأبلغ المزارعون بالفعل عن خسائر تصل إلى 80 في المئة في مستوى المحاصيل، وفقاً لرويترز.

سلاسل التوريد

وفي صيف 2022، انخفض منسوب المياه على طول نهر الراين الذي يُعد أهم ممر مائي داخلي في ألمانيا لنقل البضائع الصناعية، وأدى ذلك إلى تعطيل مسارات سفن الشحن.

وفي مقابلة مع CNN، قال إريك هيمان -المحلل في «دويتشه بنك» في ألمانيا- إن ذلك يعني تحميل السفن بأقل من طاقتها، مضيفاً أن «هذا يُنبئ باضطراب آخر لسلاسل التوريد ويُشكل خطورة على إمدادات الطاقة».

وفي السياق نفسه، وجد الباحثون في «معهد كيل للاقتصاد العالمي» أن انخفاض منسوب المياه لمدة 30 يوماً في ألمانيا تسبب في انخفاض الناتج الصناعي للبلاد بنحو 1 في المئة.

الاقتصاد

تقلل الحرارة الشديدة قدرة الأفراد على العمل، ما يؤدي إلى انخفاض الإنتاجية، وبالتالي انخفاض الناتج الاقتصادي.

كانت دراسة أجرتها مجلة «ناتشر كوميونيتيز» العلمية، عام 2021، خلُصت إلى أن خسائر الناتج الإجمالي المنسوبة إلى موجات ارتفاع الحرارة بلغت 0.3 إلى 0.5 في المئة خلال الأعوام الأربعة التي تم خلالها رصد الظاهرة (وهي 2003 و2010 و2015 و2018).

وأضافت المجلة «تشير التوقعات المستقبلية إلى احتمال زيادة تأثير الحرارة على الاقتصاد بمعدل خمسة أضعاف تقريباً بحلول عام 2060 مقارنةً بالفترة من 1981-2010 إذا لم تُتخذ مزيد من الإجراءات».

الطاقة

زيادة درجة حرارة المياه يعوق تشغيل محطات الطاقة النووية، إذ تعتمد المحطات على مياه الأنهار للتبريد.

ففي فرنسا، أعلنت شركة المرافق العملاقة «إليكتريسيتي دو فرانس» تقليل قدرة عمل ثلاثة مفاعلات بسبب ارتفاع درجات الحرارة في الأنهار القريبة، إذ كانت مياه نهري «رون» و«غارون» دافئة للغاية بشكل يعوق تبريد المفاعلات، وتعتمد فرنسا بنسبة 70 في المئة على الطاقة النووية لتوليد الكهرباء، وعادة ما تزود إيطاليا و ألمانيا والمملكة المتحدة بالكهرباء، حسب ما ذكر موقع ستاتيستا.

ومن المتوقع أيضاً تأثُر إنتاج الطاقة النظيفة في أوروبا، إذ انخفض بالفعل إنتاج الطاقة الكهرومائية بنحو 20 في المئة منذ عام 2021، ويرجع ذلك جزئياً إلى جفاف خزانات الطاقة الكهرومائية في بلدان مثل إيطاليا وصربيا والجبل الأسود، وتسعى النرويج (أحد أكبر منتجي الطاقة الكهرومائية) لتقليل الصادرات حتى تتمكن من توفير الاحتياجات المحلية.

الحقيقة الكاملة أكثر رعباً

تُظهر تلك الحقائق تأثير تغير المناخ على أوروبا فقط، لكن موجات الحرارة المرتفعة المتعلقة بتغير المناخ لها تأثيرات هائلة في جميع بقاع الأرض، بيد أن شُح البيانات المتاحة يعوق تقييم التأثير الأوسع للظاهرة، إذ تتركز التقييمات الصحية المتعلقة بالحرارة الشديدة في البلاد ذات الدخل المُرتفع.

فعلى سبيل المثال، سجلت قاعدة البيانات الدولية للكوارث 157 ألف حالة وفاة بسبب الحرارة خلال الفترة من 2000 إلى 2020، ولكن هذا الرقم أقل كثيراً من الواقع بسبب قلة الإبلاغ عن الحالات، وعدم احتساب حالات الوفاة التي تحدث خارج الكوارث الكبرى المُعلنة رسمياً.

من ناحية أخرى، ذكرت قاعدة البيانات أن 10 آلاف شخص فقط -أي 6.3 في المئة من الرقم المذكور- لقوا حتفهم في آسيا وإفريقيا وأميركا الجنوبية وأميركا الوسطى، على الرغم من أن هذه المناطق تُمثل 60 في المئة من مساحة اليابسة ويشكل سكانها 85 في المئة من عدد سكان العالم.