هي عقود قليلة ولن يُبقي تغير المناخ طعامنا كما نعرفه اليوم؛ ولضمان استمرار الحياة كما ألفناها على هذا الكوكب عكف الباحثون على إيجاد بدائل باتت حتمية للبروتين الحيواني، مثل اللحوم النباتية والمصنعة بالمختبرات، فيما انكب المسؤولون على دفع عملية التحول الغذائي الآتي -لا محالة- إلى الأمام في مؤتمر الأطراف لمكافحة التغير المناخي المنعقد في دبي كوب 28.

والتحول الغذائي هو انتقال إلى نظام غذائي مستدام يتم فيه إنتاج الغذاء واستهلاكه بما يغذي الأجيال الحالية، دون المساس بالجوانب الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، ما استدعي إدراج هذا الموضوع على رأس الأبحاث العلمية والأجندات السياسية والمناخية بتشجيع من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة والصفقة الخضراء للاتحاد الأوروبي واتفاقية الإطار لمكافحة التغير المناخي أو ما يعرف باتفاقية باريس.

وتوصلت دراسة للمركز الوطني لمعلومات التقنيات الحيوية الأميركي -نُشرت في أواخر عام 2022- إلى أن الكوكب يتغيّر بسبب الزراعة أكثر من أي نشاط بشري آخر، ولهذا نشهد الآن تدهوراً خطيراً في الطبيعة يسببه البشر.

وجاء في الدراسة أن «هناك حاجة ملحة لتحويل أنظمتنا الغذائية الحالية لتصبح أكثر استدامة ومرونة، من أجل عكس التدهور البيئي المستمر، واستعادة النظم البيئية وضمان الأمن الغذائي والتغذوي؛ ومن أجل إعادة تصميم نظام غذائي أكثر استدامة، هناك حاجة إلى تغيير أنماط الطلب على الغذاء».

أكبر بصمة بيئية

وأوردت دراسة مؤشر حياة الكوكب 2022 «أن أكبر بصمة بيئية للإنسانية تأتي من النشاط الغذائي».

ووفقاً لتقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة -نُشر عام 2022- فإن نظامنا الغذائي العالمي مسؤول عن ما يصل إلى 37% من انبعاثات الغازات الدفيئة في العالم، من ما نأكله، وماذا وكيف نزرع، والغابات التي نزيلها والطعام الذي نرميه.

وبما أن إزالة الغابات المستمرة ترجع إلى العملية المطبقة على تنفيذ المراعي أو إلى أجزاء معينة بسبب إنتاج المحاصيل كعلف للماشية، فإن استهلاك اللحوم يعد أحد الدوافع الضمنية لفقد التنوع البيولوجي وانبعاثات غازات الدفيئة.

كما جاء في تقرير «حالة التنوع البيولوجي للأغذية والزراعة في العالم» أن سلاسل الإنتاج الحيواني مسؤولة عن نحو 14.5 في المئة من انبعاثات غازات الدفيئة البشرية المنشأ.

ومن بين السلع التي تم تحليلها، أسهمت اللحوم بأعلى بصمة كربونية على الإطلاق، وكشفت دراسة أوردها التقرير أن إنتاج كيلوجرام واحد من لحم البقر يؤدي إلى 99.48 كيلوجرام من ثاني أكسيد الكربون.

العودة إلى النبات

بدأ إنتاج اللحوم من أصل نباتي في الولايات المتحدة الأميركية في القرن التاسع عشر، وتأسست عدة شركات رائدة في هذا المجال بين سبعينيات وتسعينيات القرن الماضي، كما عرف التوفو في الصين والتمبيه الإندونيسي وكلاهما بروتين نباتي مصنوع من حبوب الصويا منذ نحو ألفي عام.

واعتبر بروس فريدريتش، مؤسس ورئيس منظمة « ذا غود ويل» الخيرية الدولية، في حديث لـ«CNN الاقتصادية» أنه كما تعتبر الطاقة النظيفة الحل البديل للوقود الأحفوري، والسيارات الكهربائية بديلاً للسيارات التقليدية، فإن «الحل للتصدي لمشكلة قصور النظام الغذائي الحالي هي صناعة اللحوم من النباتات وتصنيع اللحوم من الخلايا الحيوانية بشكل مباشر».

وتضم منظمة «ذا غود فود» ست مؤسسات خيرية حول العالم، تركز عملها على الأمن الغذائي والمناخ عبر التفكير في عدم الكفاية من إنتاج لحوم الحيوانات ومنتجات الألبان والبيض.

وأشار فريدريتش إلى أن مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في الولايات المتحدة، أحد أكبر مراكز أبحاث الأمن القومي في العالم، CSIS شدّد على ضرورة أن تمنح حكومة الولايات المتحدة الأولوية للحوم النباتية واللحوم المزروعة من أجل الأمن الغذائي المباشر ومخاوف الأمن القومي، وسيكون هذا صحيحاً بشكل أكبر في دول الشرق الأوسط التي تستورد الكثير من اللحوم.

لذا، بالنسبة للبلدان التي لديها مشكلات تتعلق بالأمن الغذائي، وبالنسبة للبلدان التي تستورد الكثير من المحاصيل لإطعام الحيوانات أو تستورد الكثير من اللحوم الحيوانية الفعلية، فهذه مشكلة تتعلق بالأمن الغذائي.

إفكو.. من الإمارات للعالم

وإدراكاً لأهمية التحول الغذائي في المنطقة، أسست مجموعة (إفكو) العالمية للأغذية في مارس آذار الماضي أول مصنع لإنتاج منتجات اللحوم النباتية المصنوعة من الفول في مدينة دبي الصناعية، معتمدة بالكامل على الطاقة الشمسية في عمليات التشغيل.

وقال رضوان أحمد، المدير التنفيذي للمجموعة في حديث لـ«CNN الاقتصادية» التي زارت المصنع وصورت عملية الإنتاج هناك، إن أغذية (إفكو) النباتية التي تحمل اسم علامة «ثرايف» التجارية تم تصميمها بشكل فريد يأخذ في الاعتبار الطلب الإقليمي والمحلي على المنتجات الغذائية النباتية.

وأضاف أن (إفكو) تعمل على مزج تكنولوجيا الأغذية والأبحاث مع فهم المطبخ المحلي والتقاليد العميقة وتطوير المنتجات التي تلبي ذوق الشرق الأوسط لتنتج لحوماً من أصل نباتي مثل قطع الدجاج أو كرات اللحم أو الفطائر التي تم تصميمها بشكل ممتاز لتلبية الأذواق في الشرق الأوسط، وقد تم استقبالها بشكل جيد للغاية في السوق.

وأشار أحمد إلى أن «المكون الرئيسي في منتجاتنا هو الفول، وهي نبتة وُلدت في الشرق الأوسط منذ أكثر من عشرة آلاف عام.. ومن هنا يكمن الكمال في قدرتنا على تحديد المكونات المرتبطة بالثقافة المحلية والعادات المحلية، ومن ثم تصميم المنتج وفقاً لذلك لتلبية المتطلبات»، مؤكداً أن السوق المحلية استقبلت منتجاتهم بشكل جيد، وتوقع أن تنمو حصتهم السوقية من هذه المنتجات إلى 5% من 2-3% حالياً.

تغيير العادات الغذائية ضرورة

وفي هذا السياق، اعتبر البروفسور فرانك هو، رئيس قسم التغذية في جامعة «هارفرد» الأميركية الرائدة في مجال الأبحاث، في حديث لـ«CNN الاقتصادية» أن النظام الغذائي البشري الحالي «ليس صحياً للغاية من حيث صحة الإنسان أو الاستدامة البيئية».

وقال «نحن نعلم أن النظام الغذائي غير الصحي أصبح أحد الأسباب الرئيسية للأمراض المزمنة، مثل مرض السكري وأمراض القلب والسكتة الدماغية والسرطانات، ولهذا السبب أعتقد أنه من المهم جداً تحسين جودة نظامنا الغذائي لتقليل خطر الإصابة بالأمراض المزمنة والوفاة المبكرة».

وأشار إلى أنّه في الوقت نفسه، فإن النظام الغذائي الحالي ليس صديقاً للبيئة على الإطلاق، خصوصاً مع ارتفاع إنتاج واستهلاك اللحوم الحمراء، لأن إنتاج اللحوم هو أكبر مصدر لانبعاث الغازات الدفيئة في النظام الغذائي، كما أن استهلاك اللحوم الحمراء يتزايد بشكل كبير في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.

وأضاف «إذا استمرت الاتجاهات الحالية، أعتقد أن ذلك سيسبب أضراراً أكبر لبيئتنا».

بدورها، شدّدت وزيرة التغير المناخي والبيئة الإماراتية مريم المهيري، في رد مكتوب على أسئلة وجهتها لها «CNN الاقتصادية»، على أن العمل على تحول سلوك الأفراد لا يقل أهمية عن تحول النظم الغذائية نفسها، ومن دون تغيير نظرة الإنسان للطعام لن يستطيع العالم إحراز أي تقدم، لأن المستهلك هو المستهدف النهائي، وبتقبله هذا التحول ستنجح كامل المنظومة.

وقالت المهيري «لا بد أن يكون هناك تحول في نمط استهلاك الغذاء ليكون صحياً أكثر ويعتمد على التنوع وإيجاد البدائل من الأطعمة المغذية، والأهم أن تخضع عملية اختيار الأطعمة وأسلوب الطهي والاستهلاك لأساليب مستدامة».

.

وأضافت المهيري أنّه «من أجل تسليط الضوء على هذا التوجه بشكل عملي، حرصنا في دولة الإمارات على أن نعمل -وللمرة الأولى في تاريخ مؤتمر الأطراف- على توفير طعام وفق نظم مستدامة ومسؤولة مناخياً وبيئياً للوفود المشاركة في كوب 28».

وأشارت إلى أن الوزارة التزمت بالتعاون مع الشركاء المسؤولين عن تقديم الطعام لآلاف من المشاركين في كوب 28، على أن يكون ثلثا قوائم الطعام من الخضروات والنباتات، بجانب تقليل البصمة الكربونية للأطعمة المقدمة، لتركز أكثر على كثافة المياه والتغذية وأحجام الحصص الغذائية والحد من النفايات، بجانب أن تكون بأسعار مناسبة.

وأوضحت المهيري «بالطبع فإن هذا التوجه يعكس أهدافنا في إحداث التحول نحو نظم غذائية مفيدة صحياً وذكية مناخياً وبيئياً في الوقت نفسه، ونحن نشجع على هذا النمط الغذائي الذي يسهم في تحقيق أهدافنا، وتوجد في الإمارات العديد من المنشآت الغذائية التي تعكس رؤيتنا من مطاعم ومصانع أغذية».

وأكّدت أن «الأهم من ذلك أننا سنعمل بشكل أكبر على رفع وعي المجتمع تجاه هذا النوع من البدائل الغذائية التي تمنحنا الصفات نفسها التي نريدها من الغذاء والبروتينات، وفي الوقت نفسه تحافظ على صحتنا وبيئتنا».

اللحوم النباتية.. صحية؟

بشكل عام، تعتبر مصادر البروتين النباتية، مثل الفول والبقوليات والمكسرات والحبوب الكاملة، أكثر صحة من اللحوم الحمراء، كما أنها أكثر صداقة للبيئة.

وعبّر البروفسور هو، في حديثه لـ«CNN الاقتصادية»، عن اعتقاده أن «السياسات الغذائية العالمية وكذلك السياسات الغذائية الوطنية يجب أن تركز بشكل أكبر على إنتاج مصادر البروتين النباتية الصحية مثل المكسرات والبقوليات والفاصوليا والحبوب الكاملة، وبالتالي فإن إنتاج هذه المنتجات ليس مفيداً للبيئة فحسب، بل مفيداً أيضاً لصحة الإنسان، وفي هذه الأثناء أعتقد أنه من المهم تقليل اعتمادنا على قطاعات الثروة الحيوانية».

لكن هل البديل النباتي للبروتين الحيواني صحي بدوره، خصوصاً أن منتجات اللحوم النباتية ما زالت حديثة نسبياً في طرحها في الأسواق العالمية؟

كوب 28 يتبنى التحول الغذائي

وفي خطوة فارقة في تاريخ النظم الغذائية والزراعة العالمية، أعلنت وزارة التغير المناخي والبيئة الإماراتية خلال فعاليات اليوم الثاني لمؤتمر كوب 28 عن تصديق 133 من قادة العالم على إعلان مؤتمر كوب 28 حول النظم الغذائية والزراعة والعمل المناخي.

وأوضحت المهيري في تصريحها لـ«CNN الاقتصادية» أنه «بمشاركة هذه الدول، فإننا نغطي أكثر من 5.7 مليار شخص و70% من جميع الغذاء الذي يتناوله العالم، كما تمتلك الدول الموقعة على الإعلان ما يقرب من 500 مليون مزارع يمثلون 75% من إجمالي الانبعاثات الناجمة عن النظم الغذائية العالمية».

وأضافت «على الفور سنبدأ خطواتنا العملية، وسنعقد خلال الأيام المقبلة عدة ورش عمل حول كيفية ضمان قدرتنا على تنفيذ الإعلان بفعالية، فأهم عنصرين في الإعلان هما التمويل والابتكار، ونحن على ثقة بأننا على الطريق الصحيح، وفخورون بقيادة دولة الإمارات هذا العمل العالمي الجماعي، وتعزيز الاستدامة في واحد من أهم القطاعات الحيوية».

ولفتت وزيرة التغير المناخي والبيئة الإماراتية إلى أن هذا الإنجاز نتاج جهد كبير بدأ منذ إطلاق الإعلان في تموز يوليو الماضي.

وقالت «سنمضي في ترسيخ هذا التوجه العالمي بتشجيع المزيد من الدول على الانضمام، لنتمكن من تحويل كامل منظومة الغذاء العالمية إلى نظم مستدامة»، مضيفة «أرى أن روح التعاون كانت حاضرة بقوة خلال مؤتمر الأطراف اليوم، وهو الزخم الذي نريد أن نبني عليه، فبالتعاون سنتمكن من خلق عالم مستدام وخالٍ من الجوع».