قبل ظهور التراسل الافتراضي، مرَّ التراسل بالعديد من المحطات في تاريخ الإنسانية، بدءاً من ورقة بسيطة يحملها الحمام الزاجل والرسائل المكتوبة على جلود الحيوانات حتى رسائل البريد والتليغراف والفاكس والبريد الإلكتروني، وأخيراً وسائل للتواصل الاجتماعي التي مهدت لبزوغ فجر الثورة التكنولوجية التي جاء بها القرن الحادي والعشرون، وبعد مرور سنوات قليلة من الألفية الجديدة ظهر العديد من وسائل التواصل الافتراضية لتبدأ فوضى التطبيقات الاجتماعية بالانتشار وتخلق حُمى صعب التحكم فيها.
منذ التسعينيات من القرن الماضي، بدأ ظهور بعض المواقع الاجتماعية التي تهدف لتكوين شبكة افتراضية للتواصل بين زملاء العمل أو الدراسة.
في عام 2003، انطلق «ماي سبيس» وغيره من المواقع التي هدفت إلى فكرة تبادل الرسائل الاجتماعية الافتراضية، حتى جاء «فيسبوك»، ذلك التطبيق الذي استغل ذكاء الهواتف الحديثة لنشر فكرة التراسل الفوري ومشاركة القصص اليومية داخل عالم افتراضي جديد كلياً.
إن تحدثنا عن جيل الألفية، سنجده الجيل الأوفر حظاً من ناحية معاصرة كل هذه التغيرات، سواء على الصعيد السياسي أو الاقتصادي أو التكنولوجي، ذلك الجيل الذي اعتاد التواصل الشخصي وجهاً لوجه، وجد نفسه ينسحب من العالم الواقعي شيئاً فشيئاً في ظل حمى التطبيقات الافتراضية التي اجتاحت حياته.
أما الجيل «زد» فكان أمره مختلفاً، حيث استقبلته الحياة بمنشورات «فيسبوك»، وتغريدات «تويتر»، وفيديوهات «تيك توك» وغيرها، وأصبحت كلمة «مؤثرين اجتماعيين» من أهم اهتماماتهم، بل باتت مقترحاً مهنياً واعداً قد يدر عليهم الكثير من الأموال.
وبالطبع، منذ أيام شهد عالم التواصل الاجتماعي زخماً هائلاً بعد أن أطلقت شركة «ميتا» تطبيق «ثريدز» الذي جذب نحو 100 مليون مستخدم خلال أيام قليلة، وبنقرة واحدة فقط حقق نجاحاً مذهلاً بالفعل على الرغم من المخاوف بشأن كيفية جمع بيانات المستخدمين دون موافقتهم.
في ظل هذا العدد الهائل من التطبيقات، يحق لنا أن نتساءل: هل العالم حقاً بحاجة إلى تطبيق اجتماعي جديد؟
فوضى التطبيقات الاجتماعية
بدأت فوضى التطبيقات الاجتماعية مع ظهور العديد من التطبيقات الجديدة، سواء تلك التي تبني نجاحها على نجاح تطبيقات قائمة بالفعل أو التي تستغل فشل تطبيقات أخرى في تلبية احتياجات المستخدمين، فهناك من رغب في المضي قدماً على نهج ما قدمه أسلافه من تطبيقات مثلما انطلق تطبيق «كاكاو تاك» في كوريا الجنوبية، بينما ظهر البعض مثل «بلوسكاي» مستغلاً فشل إيلون ماسك الإداري وقراراته المثيرة للجدل بعد الاستحواذ على «تويتر».
وهناك من اتخذ من التقليد وسيلة لتحقيق الانتشار، سواء بتقليد الخدمات المقدمة، أو تقليد الفكرة والعمل على تطويرها، وهذا ما تقدمه شركة «ميتا»، التي أطلقت «ثريدز» كمنافس للعصفور الأزرق، علماً أنها ليست المرة الأولى التي تحاول فيها تقليد بعض التطبيقات المنتشرة.
هناك المئات من التطبيقات التي شكلت حمى التواصل الافتراضية، والتي قد لا تعرف حتى بوجودها، إذ سيطرت شركة «ميتا» بمنتجاتها المتعددة سواء «فيسبوك»، و«إنستغرام»، و«واتساب»، و«ثريدز» على ما يقرب من ثلاثة مليارات مستخدم حول العالم.
على سبيل المثال، يُعد العدد الهائل للمستخدمين البالغ 2,960 مليار مستخدم على «فيسبوك» السبب الرئيسي لإيراداته، إذ جمع نحو 116.6 مليار دولار في 2022 أغلبها من الإعلانات، علماً أن هناك عشرة ملايين معلن يستخدمون التطبيق منذ بداية 2023، وفقاً لبيانات «ميتا».
ولم تخلق «ميتا» فوضى التطبيقات الاجتماعية بإطلاق «ثريدز» فحسب، بل بسيطرتها على هذه الصناعة بشكل شبه كامل، إذ تسعى لجذب ملياري مستخدم لتطبيق «إنستغرام»، لكن هل يكتب ذلك النجاح لتطبيقها الجديد؟
«ثريدز» تطبيق للبقاء أم سيُنسى؟
نجح التطبيق الجديد في جذب مليوني مستخدم بلمح البصر بمجرد إطلاقه، ثم وصل عدد مستخدميه إلى أكثر من 42 مليون مستخدم بعد مرور يوم، ثم 74 مليون مستخدم بعد يومين، و90 مليون مستخدم بعد ثلاثة أيام، قبل أن يصل لـ102 مليون مستخدم في يومه الرابع، وفقاً لإحصاءات «كوفير كوانتاتيف».
هذه الوتيرة المحمومة لتحميل تطبيق ثريدز والانضمام إليه عبر حساب «إنستغرام»، انخفضت مع مرور الوقت، إذ كان الفضول تجاه التطبيق الجديد هو المحفز الأكبر لاكتشافه، إضافة الحنق الذي يشعر به الناقمون على أداء «تويتر» في عهد ماسك.
مع انخفاض حدة انتشار «ثريدز»، فإن عدد التنزيلات لا يضمن نجاحه؛ لكنه يضمن بالضرورة وجوده على هواتف المستخدمين، نظراً للشرط الذي وضعه مارك زوكربيرغ بحذف الحساب الأصلي على «إنستغرام» لإلغاء التطبيق، سعياً للاحتفاظ بأكبر عدد من المستخدمين، حتى إن هجروا التطبيق بمجرد اكتشاف ثغراته، أو الملل منه، خاصة لأنه لا يقدم الجديد والذي لا يختلف كثيراً عن «تويتر»، وكأنه اصطياد في الماء العكر فقط.
تشكيل وعي المستخدم
مع انتشار فوضى التطبيقات الاجتماعية بين الجيل «زد»، فإن كثرتها أعطت أفراد هذا الجيل شيئاً من الوعي تجاه ما يحدث في العالم الافتراضي، ووفقاً لبيانات «تيك توك» فإن 60 في المئة من مستخدميه هم من هذا الجيل الذي غالباً ما يبحث عن وسيلة لجني الأموال وتحقيق الشهرة.
أما تطبيق «لينكد إن»، فيجذب أكثر من 59 في المئة من جيل الألفية من إجمالي مستخدميه، وفقاً لبيانات الشركة، ما يدل على الوعي الذي يتمتع به هذا الجيل من ناحية استغلال هذه التطبيقات للتطور المهني، والبحث عن فرص عمل جادة.
بيانات المستخدمين وانتخابات على الأبواب
قد يواجه التطبيق الجديد من « ميتا» أزمة محتملة في أوروبا، حيث تدخل قواعد مكافحة الاحتكار الجديدة للمنصات الرقمية حيز التنفيذ في غضون أشهر.
وفي هذا الصدد، قال مدير الشؤون القانونية والاقتصادية في منظمة «دعوة المستهلك» في بروكسل، أغسطين راينا «من منظور المنافسة، يمكن أن يشكل ذلك مشكلة لـ(ميتا)، إذ يمكن أن تستخدمه للاستفادة من قوتها السوقية».
وأضاف أنه بموجب قانون الأسواق الرقمية في الاتحاد الأوروبي، الذي يُعرف باسم «حراس البوابات الرقمية»، سيتم حظر الجمع بين بيانات المستخدم من منصات متعددة دون موافقتهم، كما حدث في حالة «ثريدز» الذي تطلب الانضمام إليه نقل بيانات حسابات «إنستغرام» بنقرة واحدة.
على جانب آخر، سرحت «ميتا» عدداً من موظفيها في الأقسام المسؤولة عن التعامل مع المعلومات المضللة وتنسيق حملات التصيد والمضايقات، ما أثار مخاوف قبيل الانتخابات الأميركية 2024.
ويُنظر إلى الفريق المكلف بمكافحة حملات التأثير -الذي يضم مسؤولين سابقين بالحكومة والمخابرات الأميركية- على أنه الأكثر قوة في مجال مواقع التواصل الاجتماعي.
يسلّط إطلاق «ثريدز» هذا الأسبوع الضوء على الواقع غير المريح للاقتصاد الرقمي الحديث، إذ كشف أهمية تشكيل كيانات عملاقة للتغلب على أكبر اللاعبين في الصناعة، ويبدو أن الأمر لا يتعلق بأهمية التطبيق أو مدى حاجة المستخدمين إليه، بل يتعلق بأرباح الشركات وارتفاع قيمتها السوقية ورغبة رواد الأعمال في تحقيق الثراء والشهرة بغض النظر عن احتياجات المستخدم.