هل سعيك المتواصل نحو الكمال يعوقك عن إتمام مهامك بشكلٍ يرضيك أو إتمامها على الإطلاق؟ وهل تحاول التخلص من كماليتك لتصل إلى التوازن في الحياة؟

قد يرجع رفضك لهذا الجانب من شخصيتك إلى الرسائل المُنفّرة التي صاحبت الحديث عن «الكمالية»، بل قد يكون تصالحك معها هو المفتاح الحقيقي لباب التوازن، وفق ما تراه عالمة النفس كاترين مورجان شيفلر.

ما هي الكمالية؟

«الكمالية» هي سعي الفرد بشكلٍ مبالغ فيه نحو الكمال والمثالية، وهناك أدلة متزايدة على أن الزيادة في اعتلال الصحة النفسية لدى الشباب ينبع من المعايير المفرطة للإنجازات التي يريدون تحقيقها في المجال المهني والأكاديمي، والعقاب القاسي الذي يوقّعونه على ذواتهم بسبب عدم تحقيق الإنجازات غير الواقعية التي يرجونها، وفقاً لصحيفة «هارفارد بيزنس ريفيو».

ويقول علماء في جامعة «بريتيش كولومبيا» إن السعي المكلّف غير الفعّال نحو الكمال ومحاولة الظهور بمظهر مثالي هما في الأساس موقف دفاعي يحاول به الشخص تخطي شعوره بعدم الانسجام في الوسط المحيط، وعدم الانتماء، وعدم القبول.

تختلف الكمالية عن الرغبة في تحقيق التميز، إذ يتضمن السعي نحو الكمال معايير غير واقعية للتميز، بلا مجال للفشل ولا هوادة في الخطأ.

الكمالية تتزايد.. فما السبب؟

تتسبب توقعات الآباء المبالغ فيها، وانتقاداتهم اللاذعة لأبنائهم، والقبول المشروط في نمو الكمالية داخل الأبناء بشكلٍ يجعلهم يعانون فيما بعد من انتقاد أنفسهم بشدة، وشعورهم بالإحباط المستمر من عدم مقابلة توقعاتهم المبالغ فيها.

يسهم النظام المجتمعي أيضاً في زيادة نسبة الكمالية، فوفقاً لصحيفة «أوكس جورنال» الأكاديمية، فقد خلُصت دراسة إلى أن 25 إلى 30 في المئة من المراهقين يعانون من الآثار السلبية للكمالية.

قال الدكتور توماس كوران، الأستاذ المساعد بقسم علم النفس في كلية لندن للاقتصاد، في مقال نُشر في جريدة الكلية، إن جوانب الرأسمالية مثل الأسواق التنافسية وثقافة الاستهلاك قد تساعد على زيادة التنافسية، ولكن ثقافة «العولمة» في القرن الحادي والعشرين وسّعت عدسات المقارنة لتشمل مَن هم أبعد من أقراننا المباشرين، وأدّى الوجود المستمر لوسائل التواصل الاجتماعي في حياة الناس إلى تسريع هذا الاتجاه.

«الكمالية» عائق أمْ دافع؟

عادة يحفّز المتخصصون النفسيون الباحثين عن الكمال بخطابات الرعاية الذاتية، مشددين على أن القبول غير المشروط للذات أهم من تحقيق الإنجازات، ناظرين إلى الإنسان كقيمة في حد ذاته لا تحتاج إلى تحقيق نجاحات لإعلائها.

ولكن ترفض المعالجة النفسية كاثرين مورغان شافلر النهج الذي يحفّز الأشخاص للتغلب على الكمالية، إذ ترى أن تلك الرسائل تعجيزية لأن الكمالية جزءٌ أساسي من شخصية أصحابها، كما ترى شافلر أن خطابات الرعاية الذاتية تحاول قمع التعبير عن الطموح وكبت الرغبة في الوصول إلى السلطة خاصة لدى النساء.

عبّرت شافلر عن آرائها في كتاب «دليل الكماليين إلى فقدان السيطرة: طريق للسلام والقوة»، وقالت في حديث لـCNN إن مصطلح «الكمالية» يجب أن يرتبط في أذهاننا بكل ميزات البحث عن التفوق.

عرّفت شافلر «الكمالية» بأنها دافع طبيعي فريد يمتلكه البشر، إذ يرون الواقع ويحاولون تحسينه ليصل إلى صورة جديدة محسّنة يرونها بأذهانهم قبل أن يستطيعوا تحقيقها في الواقع.

يرى «الكماليون» الفجوة بين الواقع والمثالي كأي شخص، لكنهم بالإضافة إلى ذلك يشعرون بضرورة قصوى لسد تلك الفجوة، من دون أن يتقيدوا بالواقعية.

من ناحية أخرى، ترى شافلر أن الكمالية «مصدر قوة»، وأن تلك القوة تكمن في التوتر الذي يحمله الكماليون، وما عليهم سوى توجيه تلك القوة بوعي رغبةً في النجاح وليس خوفاً من الفشل؛ فالعمل من أجل تجنب الفشل هو محاولة لتعويض الشعور بعدم الاستحقاق، إذ قالت شافلر «لا توجد نسخة صحية من ربط قيمتك الذاتية بالإنجاز.. الحب والحرية والفرح والتواصل والكرامة هي حق للإنسان منذ ولادته، لا تحتاج إلى القيام بأي شيء لكسبهم».

ينقسم الكماليون إلى عدة فئات، فمنهم الكلاسيكيون، والحادّون، والفارسيون، والفوضويون، والمؤجِّلون.

تدعو شافلر في كتابها كل كمالي إلى اكتشاف الفئة التي ينتمي إليها، ليستطيع التعامل مع متطلباتها بشكلٍ صحي، والتمتع بحياة متوازنة.

ما هو التوازن وكيف يتحقق؟

تقول شافلر إن التوازن بالأساس يعني تلبية الاحتياجات النشطة من الفضول والمرح والتفكير والراحة، أمّا اليوم فيُعرّف التوازن بشكلٍ خاطئ على أنه النجاح في الانشغال، بمعنى النجاح في التعامل مع مزيد من الانشغالات من دون الإخفاق في شيء، مضيفة أن هذا التعريف يبعد كل البعد عن الصحة النفسية.

وتُضيف أن الحياة الصحية والمتوازنة تبدو مختلفة بالنسبة لكل شخص، إذ تتزن حياة الشخص عندما تتسق أفعاله مع قيمه.. تلك القيم: الصدق، والنزاهة، وروح الدعابة، واللطف، والموثوقية، وما إلى ذلك كلها جيدة، ولكن تختلف أولويات كل شخص فيما يتعلق بالقيم الضرورية بالنسبة له.

تحديد تلك الأولويات يساعد بشكلٍ كبير على كيفية قضاء الوقت.

جيسيكا دولونغ (CNN)