للحرب الأخيرة على غزة تأثيراتها الكارثية على اقتصاد القطاع، بل وعلى الضفة الغربية والمناطق الفلسطينية الأخرى عامةً، فضلاً عن القطاع التكنولوجي الذي تأثر بانقطاع خدمات الاتصالات والبنى التحتية المختلفة بسبب القصف المستمر على شتى أنحاء القطاع.
وعلى الرغم من الدمار والخسائر المادية والبشرية التي تخلفها الحرب المستمرة على غزة، ما زال قلب الشركات الناشئة الفلسطينية ينبض بفضل حلول فعّالة ابتكرتها الكوادر الفلسطينية لضمان استمراريتها.
ريادة الأعمال في غزة قبل وبعد 7 أكتوبر
قبل السابع من أكتوبر تشرين الأول من العام الماضي «كان عدد الشركات الناشئة لا بأس به في رام الله، والخليل، والضفة الغربية، وغزة وباقي أنحاء فلسطين»، هذا ما قاله فادي غندور، الرئيس التنفيذي في ومضة كابيتال لـ«CNN الاقتصادية».
ومضة كيان رائد في مجال رأس المال الاستثماري المخاطر ينطلق من دبي في الإمارات العربية المتحدة، إذ يركز على دعم رواد الأعمال في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في مرحلة التأسيس والمرحلة المبكرة من المشروعات.
كان تقرير للبنك الدولي عام 2018 أوضح أنه يُنشأ في المتوسط نحو 19 شركة ناشئة في الأراضي الفلسطينية كل عام مقارنة بالعام السابق، ما يؤدي إلى معدل نمو مركب بنسبة 34 في المئة في إطلاق الشركات الناشئة منذ عام 2009.
ويقول غندور إن عدد الشباب والشابات الفلسطينيين العاملين في قطاع التكنولوجيا والبرمجة يعد لا بأس به، إذ كانت الشركات الأجنبية تعتمد على قدراتهم ومهاراتهم لإنجاز مشاريعها.
لكن بعد السابع من أكتوبر تشرين الأول، أي بعد الهجمات التي شنتها حماس ضد إسرائيل وبدء الحرب على غزة من قبل الجانب الإسرائيلي، قلبت الأمور رأساً على عقب سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية وباقي الأراضي الفلسطينية.
ففي الضفة الغربية، فقد العديد من الشباب الفلسطيني العاملين في قطاع التكنولوجيا وظائفهم، وبحسب تصريحات غندور، فإن شركات التكنولوجيا الأجنبية الكبرى العاملة في إسرائيل أنهت عقود الموظفين الفلسطينيين.
ويقول حبيب حزان، الشريك الإداري في صندوق ابتكار الفلسطيني، وهو الوحيد برأس مال فلسطيني، «أصبح هناك تباطؤ اقتصادي في السوق الفلسطينية وتوجهت الشركات الفلسطينية للأسواق الإقليمية والعالمية، لذلك نلاحظ أن مبيعات هذه الشركات لم تتأثر».
ويضيف أن التأثير السلبي على هذه الشركات يتمثل في حرية التحرك والتنقل التي أصبحت صعبة بسبب الحرب الحالية، بالإضافة إلى الأمن والأمان المفقودَين في غزة وحتى في الضفة الغربية.
وتابع أن جهد المبادرين الذي استمر لسنوات «تراجع للوراء بشكل محزن»، إذ إن كثيراً من هؤلاء المبادرين فقدوا عائلاتهم، و«أصبح هناك عبء لتوقع المستقبل بشكل موضوعي».
أمّا في غزة، أصبحت الحياة العملية شبه معدومة، إذ باتت معظم الشركات ركاماً على الأرض، وخسر بعضها عدداً من موظفيها كضحايا في هذه الحرب، فعلى سبيل المثال، تدمرت بالكامل مكاتب مؤسسة (غزة سكاي غييكس – Gaza Sky Geeks)، وهي من أكبر المؤسسات التي تدرب الشباب الفلسطينيين على البرمجة، بحسب ما قاله غندور لـ«CNN الاقتصادية».
وكانت من أكثر الشركات التي تضررت في هذه الحرب الشركات المختصة بالطاقة المتجددة وبالتحديد تلك التي تعتمد على الألواح الشمسية، وكانت شركة (صن بوكس – SunBox) في قطاع غزة هي «أكثر الشركات التي تضررت بشكل مباشر منذ اندلاع الحرب»، بحسب ما قاله كمال المشهراوي، المدير الإداري للشركة، وهي إحدى الشركات الناشئة الفلسطينية في قطاع الطاقة المتجددة التي كانت تزود سكان غزة بالطاقة من خلال ألواحها الشمسية.
وتحدث المشهراوي عن الخسائر المادية التي تكبدتها الشركة جراء الحرب من مكاتب ومعدات وغيرها، فضلاً عن خسارة الموارد البشرية، وأصبح جزء كبير من الفريق المكون من فنيين وبرمجيين وأشخاص من ذوي الخبرة المدربين من قبل الشركة على مدار السنوات الماضية منذ إنشائها عام 2017، عاجزاً عن العمل وثمة آخرون «خسرتهم الشركة وانتقلوا إلى رحمة الله»، وفقاً لما أكده المشهراوي.
وأشار إلى أن هذه كلها مشكلات تواجه شركته كشركة ناشئة في فلسطين، «وحتى الآن الوضع هذا مستمر، ولا نعرف ماذا ينتظرنا في المستقبل».
طوق النجاة للشركات الناشئة والقوى العاملة الفلسطينية
وبالرغم من ضبابية المشهد، لا يزال قطاعا ريادة الأعمال والتكنولوجيا يتمتعان بالمرونة، إذ يتم بذل جهود نشطة للمساعدة في استدامتهما.
ويقول راتب رابي، المدير التنفيذي لحاضنة الأعمال (إنترسيكت – Intersect) التابعة لبنك فلسطين في مقابلته مع «CNN الاقتصادية» إن هناك بالفعل عدة مبادرات عاجلة أُطلقت للعبور من هذه الفترة الحرجة.
ومن ضمن هذه المبادرات (ثرايف تيك – Thrive Tech) وهي أول مبادرة لموقع يجمع كل الموظفين المستقلين (freelancers) الذين فقدوا أعمالهم جرّاء الحرب، وتضمن هذه المبادرة توفير جزء من رواتب هؤلاء الموظفين وتوفير عمل بديل لهم عن طريق التسويق لهم لإيجاد فرص، وفقاً لما أفاده رابي.
ويقول رابي «أثناء إنشاء الموقع اكتشفنا أن كثيراً من العقود للموظفين مع شركات أجنبية وخارج فلسطين تم إنهاؤها في 7 أكتوبر (تشرين الأول) وتم فصل كل عمال التكنولوجيا».
كما حدثنا عن مبادرة أخرى قائمة هي (لينك – Link) لمساعدة أي شركة في فتح مكتب لها في الأراضي الفلسطينية لتوظيف المبرمجين.
قام بنك فلسطين بمبادرة أخرى لتوفيق العمل بين الفلسطينيين في غزة والقدس والضفة الغربية عن طريق جعل المبرمجين المقيمين في القدس والضفة يتولون إنهاء المشاريع التي كانت تُدار من قبل المبرمجين في غزة لحين استقرار الأوضاع وحتى يستمر العمل مع الزبائن ولا يتم إلغاؤه.
وهناك مبادرتان وصفهما رابي بـ«طوق النجاة» للمبرمجين في غزة وهما (Rise Palestine) أي النهضة بفلسطين و(Save Palestine) أي إنقاذ فلسطين، إذ توفر المبادرة الأولى رواتب عن كل يوم عمل لمن فقد عمله والثانية تعمل على توفير الاستثمارات للشركات الناشئة كممر أمان خلال الستة إلى تسعة أشهر القادمة.
ماذا بعد حرب غزة؟
«نحن باقون ما بقي الزعتر والزيتون»، عبارة يؤمن بها كل فلسطيني ولعل أكثر ما يؤكدها هو قوة صمود الشعب الفلسطيني، لا سيّما المبادرون من الشباب والشابات في القطاع التكنولوجي وريادة الأعمال.
ومن أجل استمرار هذا الصمود، يتطلب الأمر تضافر الجهود من عدة جهات، إذ يقول فادي غندور، الرئيس التنفيذي في ومضة كابيتال، «مطلوب وظائف، ورأس مال مخاطر يؤمن بفلسطين واستدامة الشباب داخل فلسطين، وإيجاد آليات لدعم المؤسسات والشباب داخل فلسطين».
ويؤكد حزان أن صندوق استثمار واحداً في فلسطين (يقصد ابتكار) ليس كافياً، ويقول «يجب أن يكون في السوق الفلسطيني أكثر من صندوق استثمار»، وتابع «نتعاون مع الأردن و دول الخليج ونتوقع خلال العام القادم 2025 أن يكون هناك أكثر من صندوق استثماري يشارك في السوق الفلسطينية».
أما عن جهود الشركات الناشئة، فيقول كمال المشهراوي من (صن بوكس – SunBox) إن شركته تعمل حالياً على خطة لما بعد الحرب كجزء من استراتيجية إعادة الإعمار والتجديد تحت اسم (Jump Starting Hope) أي قفزة البداية للأمل، وتهدف هذه الخطة لإعادة البناء والتأسيس للبنية التحتية التي تأثرت في الحرب الخاصة بشبكة الكهرباء والطاقة المتجددة.
ويقول المشهراوي إن أنظمة الطاقة والكهرباء في قطاع غزة «قائمة في الأساس على اللامركزية وهي عكس فكرة المركزية الموجودة في كل الدول»، وتابع موضحاً، «فكرة اللامركزية معتمدة على الطاقة الشمسية وبناء محطات متفرقة تخدم المجتمعات الصغيرة كخطة مؤقتة من سنتين إلى ثلاث سنوات»، وذلك لتمكين العائلات في مخيمات النزوح أو خارج بيوتهم للحصول على المستوى الأساسي من الطاقة لتشغيل الأجهزة الأساسية للمعيشة.
وأفاد المشهراوي أن هذا المشروع «سيتم تنفيذه مع هيئات ومؤسسات دولية معنية بإعادة البناء وإعادة تأسيس البنية التحتية في غزة، وستكون صن بوكس مشاركة كشركة قطاع خاص رائدة في هذا المجال».