ما بدأ كسباق بين الشركات العملاقة للتربع على عرش صناعة الرقائق الإلكترونية، أصبح اليوم المحرك الأساسي للحرب التكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، ومن أولويات دول الاتحاد الأوروبي وشرق آسيا.
لولا هذه الشرائح الصغيرة لما كانت حياتنا بمستوى التطور التي هي عليه الآن. فهي المشغّل لأجهزتنا الكهربائية بمختلف أشكالها وأحجامها، ومن العناصر الرئيسية في صناعة وسائل النقل، كما تستخدم أيضاً في صناعة لوحات الطاقة الشمسية وغيرها الكثير.
ما هي الرقائق الإلكترونية، وكيف تعمل؟
تتكون الرقاقة الإلكترونية من مادة شبه موصلة (Semiconductor) وهو الاسم الذي اشتهرت به. أشباه الموصلات هي عبارة عن عناصر ومركبات كيميائية ذات قدرة متوسطة على توصيل الكهرباء، وتمتاز بانخفاض أسعارها وكفاءتها في مجال الطاقة كالسيليكون والجرمانيوم.
تحتوي الرقائق الإلكترونية على المليارات من الترانزستورات التي بدورها تعمل على معالجة جميع أنواع المعلومات على هيئة أرقام ثنائية بسيطة هي 0 و1. فإذا تم تمرير الكهرباء عبر بوابة الترانزستور، تكون على هيئة الرقم 1، وإذا لم يحصل ذلك، فيُترجم ذلك على هيئة الرقم 0.
تأتي الرقائق بعدة أحجام مختلفة، وأكثرها شيوعاً اليوم هي رقائق بحجم 14 نانومتر(14nm) (إشارة إلى حجم كل ترانزستور موجود على الرقاقة)، 10 نانومتر، ورقائق الخمسة نانومتر المستعملة في أجهزة «أبل» (Apple) كالآيفون (iPhone) والحاسوب المحمول «ماك بوك» (MacBook).
ومن الجدير ذكره بأن أكبر المصانع المنتجة لهذه الرقائق تتنافس فيما بينها لابتكار وتصنيع رقائق أصغر حجماً، وذلك لأنه كلما قلّ حجم الشريحة، زادت كفاءتها فهي تحتاج إلى وقت ومجهود أقل لمعالجة المعلومات.
ما سبب «حرب الرقائق»؟
يعود سبب هذا الصراع إلى أهمية الرقائق. فكما ذكرنا سابقاً، تعتبر هذه الشرائح نواة الحياة الحديثة، إذ تُستخدم في الكثير من الصناعات والقطاعات الحيوية أبرزها: صناعة الأجهزة الإلكترونية كالهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر، وفي صناعة السيارات والطائرات، بالإضافة إلى استخدامها في صناعة الأجهزة الطبية، ومراكز البيانات، وغيرها.
وبالتالي، فإن إنتاج هذه الأجهزة والمعدات يعتمد بشكل أساسي على توفر الرقائق الإلكترونية.
ونظراً لصعوبة تصنيعها وتكلفة إنتاجها العالية، احتكرت جهات معيّنة كالتايوان والصين هذه الصناعة وباتت هي الموّرد الوحيد للشركات من مختلف القطاعات في العالم. وقد تنّبهت العديد من الحكومات لذلك بعدما أيقظها الوباء من غفلتها، إذ أدّى انتشاره والقيود التي فُرِضت للحد من تغلغله إلى تعطّل سلاسل التوريد، وإخلال مستويات الطلب والعرض، وإغلاق المنشآت المصّنعة لهذه الرقائق. ونتيجة لذلك، عانى العالم من أزمة نقص الشرائح التي ما زال أثرها قائمٌ حتى يومنا هذا، وكان من أكبر متضرريها صانعو السيارات.
فمثلاً، تراجعت مبيعات السيارات في ألمانيا في عام 2021 إلى أدنى مستوى لها منذ العام 1990 متأثرةً بهذا النقص، فقد بلغت المبيعات طوال السنة 2.62 مليون سيارة فقط بحسب تقرير الهيئة الفيدرالية للسيارات في ألمانيا «كيه بي إيه» (KBA).
من المسيطر اليوم على صناعة الرقائق؟
تتربع الشركة التايوانية «تي إس إم سي» (TSMC) على عرش صناعة أشباه الموصلات، فقد استحوذت على 56.1 في المئة من الحصة السوقية في الربع الثالث من عام 2022، وتخطت أرباحها 20 مليار دولار أميركي. فهي الموّرد الأساسي لشركة «أبل»، كما تعتمد على منتجاتها عمالقة التكنولوجيا مثل «إنتل» (Intel)، «إنفيديا» (Nvidia)، و«هواوي» (Huawei).
تليها شركة سامسونغ الكورية بحصة سوقية تقدر بـ 15.5 في المئة، مسجلةً أرباح تخطت الـ 5.5 مليار دولار في الفترة نفسها.
أمّا الشركة الأميركية «جلوبال فاوندريز» (GlobalFoundries) فاستحوذت على 5.8 في المئة من الحصة السوقية، بينما كانت الحصة السوقية لمنافستها الصينية «سميك» (SMIC) هي 5.3 في المئة فقط.
أمّا بالنسبة للشركات المصممة للرقائق الإلكترونية، كانت الحصة الأكبر من نصيب الشركات الأميركية مثل شركة «كوالكوم» (Qualcomm) التي تعدت أرباحها 29 مليون دولار أميركي في عام 2021، وشركة «إنفيديا» التي تخطت إيراداتها 24 مليون دولار أميركي.
وبالرغم من غياب الشركات الأوروبية في سباق إنتاج وتصميم الرقائق الإلكترونية، إلّا أنها تعتبر العمود الفقري لهذه الصناعة، فهي المصّنعة للتقنيات والمعدات اللازمة لإنتاج الشرائح. على سبيل المثال، تحتكر الشركة الهولندية «إيه إس إم إل» (ASML) صناعة آلات الطباعة الحجرية فوق البنفسجية المتطورة اللازمة لإنتاج الرقائق الأكثر تطوراً والأصغر حجماً. كما تعتبر الشركة الألمانية «كارل زيس إس إم تي» (Carl Zeiss SMT) المُصنع الوحيد في العالم للمرايا والعدسات المستخدمة في معدات صناعة الرقائق الأكثر تقدمًا.
ما هي الإجراءات التي تتخذها الدول والحكومات للهيمنة على هذه الصناعة؟
نظراً للتوتر السياسي المستمر بين الصين وتايوان وبعد أزمة نقص الرقائق التي شلّت العديد من القطاعات، قررت الولايات المتحدة في أغسطس آب من العام الماضي تخصيص حوالي 280 مليار دولار على مدى السنوات العشر المقبلة (قانون الرقائق والعلوم)، كي تحد من سيطرة الصين على هذه الصناعة وتتمكن من استعادة مكانتها الرائدة في هذا المجال، إذ تُصّنع الولايات المتحدة اليوم 12 في المئة من أشباه الموصلات فقط، بينما كانت نسبة إنتاجها 37 في المئة في عام 1990.
لم تكتف الولايات المتحدة بذلك، ففي أكتوبر العام الماضي فرضت عقوبات جديدة على الصين هدفها منع الشركات الصينية من الوصول إلى أحدث المعدات والتقنيات الأميركية اللازمة لصنع الرقائق الإلكترونية المتطورة صغيرة الحجم، مما أدى إلى انخفاض مشتريات الصين من معدات صنع أشباه الموصلات بنسبة 27 في المئة مقارنة بنفس الفترة من عام 2021.
بالإضافة إلى ذلك، تحاول الولايات المتحدة الضغط على الشركات الأوروبية كشركة «إيه إس إم إل» من تصدير تقنياتها ومعداتها الحديثة إلى الشركات الصينية المصّنعة للرقائق الإلكترونية.
تحاول دول الاتحاد الأوروبي تفادي حرب الرقائق والتركيز على مصالحها الاقتصادية. ففي نوفمبر من العام الماضي، وافق ممثلو دول الاتحاد الأوروبي على تخصيص 46.6 مليار دولار أميركي لتصنيع 20 في المئة من أشباه الموصلات المصّنعة حول العالم بحلول عام 2030.
ومن جانبها، تعمل الصين على تسليح نفسها من خلال توجيه أكبر شركاتها مثل «علي بابا» (Alibaba) و«تنسنت» (Tencent) إلى مجال تطوير أجيال متقدمة من الرقائق الإلكترونية.
يلعب هذا التوتر العالمي دوراً في تغيير التوقعات لنمو سوق أشباه الموصلات هذا العام، فمن المتوقع أن ينخفض نمو السوق العالمي بنسبة 4.1 في المئة إلى 557 مليار دولار أميركي.