عادة لا يفكر الناس ملياً في الكيفية التي تحلق بها الطائرات، تلك الهياكل العملاقة التي تزن الواحدة منها نحو 200 طن، على ارتفاع نحو 40 ألف قدم فوق سطح الأرض بأمان إلا عندما تقع كوارث.

فالطائرات من أبرز نماذج الهياكل ذات الاعتمادية العالية، وتمتاز بقدرتها الاستثنائية على تفادي الكوارث في بيئات محفوفة بالمخاطر والتعقيدات. لكن الكوارث دائماً ما تجلب معها الكثير من التساؤلات.

فقد ألقت حوادث طائرة بوينغ 737 ماكس، التي تحطمت مرتين خلال خمسة أشهر بين عامي 2018 و2019، مودية بحياة نحو 350 شخصاً، الضوء على الشركة بسبب خطأ جوهري في تصميم الطائرة. هذه الحوادث أعادت تأجيج المخاوف حول سلامة الطيران والآليات المتبعة لمنع مثل هذه الإخفاقات لفترة من الزمن. وعندما نسي الناس تلك الكوارث، جاءت سلسلة جديدة من الحوادث المؤسفة في الربع الأول من عام 2024 وحده لتضع الشركة مرة أخرى تحت المجهر وتطرح سؤالاً جوهرياً.. هل بوينغ أكبر من أن تفشل؟

سلسلة الأحداث المتوالية

بدأت بوينغ العام الجديد بثمانية حوادث كبيرة كان أحدثها في شهر مارس آذار، تضمنت هبوطاً اضطرارياً بسبب أعطال ميكانيكية وإجراءات قانونية من ركاب يخشون على حياتهم. كل حادث، بدءاً من انفجار غطاء باب طائرة أثناء الرحلة إلى سقوط إطار عند الإقلاع، لم يعرض سلامة الركاب للخطر فحسب، بل زاد أيضاً من حدة التدقيق في معايير الصناعة والسلامة لدى بوينغ. حتى أن الهيئة الفيدرالية للطيران فتحت تحقيقاً في أمر بوينغ 737 ماكس استمر ستة أسابيع، ووجدت العديد من المشاكل فيها.

كما تواجه الشركة تحديات مختلفة، خاصة تلك النابعة من أزمة 737 ماكس وتطوير 787 دريملاينر، ما وضعها تحت ضغوط مالية كبيرة مع ارتفع صافي ديونها إلى ما يقرب من 47 مليار دولار بحلول عام 2023. وتحولت بداية بوينغ المتعثرة لعام 2024 إلى مسألة أوسع تؤثر على شركات الطيران والركاب بسبب التأخير في إنتاج الطائرات ذات الممر الواحد. هذا العائق جاء كاستجابة لمخاوف الجودة التي كشفتها حادثة في 5 يناير كانون الثاني تتعلق برحلة تابعة لشركة طيران ألاسكا.

وتحاول مختلف شركات الطيران مثل الخطوط الجوية المتحدة، وشركة ساوثويست، وشركة رايان إير أن تتكيف مع هذه التأخيرات من خلال تعديل جداولها الزمنية والبحث عن بدائل لطائرات 737 التي طلبتها، وسط سوق محكم بالفعل ويعاني من مشاكل الإنتاج والجودة. ومن المتوقع أن يؤدي هذا النقص إلى تقليل خيارات الرحلات ورفع محتمل للأسعار.

كما أن أدت تداعيات حادثة كبيرة في أوائل يناير كانون الثاني إلى انخفاض حاد في طلبات الطائرات التجارية الأمريكية، مع انخفاض بنسبة تقارب 60% في الشهر ذاته، وهو أكبر انخفاض منذ يونيو حزيران 2020. كما حذر الرئيس التنفيذي بالإنابة لوكالة سلامة الطيران الأوروبية في مقابلة مع رويترز من أن الوكالة ستعلق موافقتها غير المباشرة على إنتاج طائرات بوينغ، إذا «دعت الضرورة».

واليوم حذرت شركة بوينغ من أن ما تمر به الشركة سيؤثر على توقعات تدفقاتها النقدية، فذكر برايان ويست، المدير المالي للشركة في مؤتمر أن التدفق النقدي الخارجي سيصل إلى ما بين 4 مليارات و4.5 مليار دولار في الربع الأول. كما أن خطة الوصول إلى هدف تدفق نقدي بقيمة 10 مليارات دولار بحلول عامي 2025-2026 ستستغرق وقتاً أطول. وقال ويست إن التدفق النقدي الحر للعام ستكون بمليارات الدولارات لكن لن تتجاوز عشرة مليارات.

«في الوقت الحالي لسنا قادرين على إدارة الأجل القريب لهذه النتائج المالية بسبب العمل المتعلق بالاستقرار الذي نقوم به وتوقعاتنا هي أننا سنصبح أكثر قدرة على التنبؤ وأفضل تموضعًا، لكن ذلك سيستغرق وقتًا.»

وأوضح ويست أن هوامش الأرباح في قطاع الطائرات التجارية ستكون سلبية بنحو 20% في الربع الأول بينما تقوم الشركة بدفع تعويضات عن فشل شبه كارثي في هيكل طائرة بوينغ 737 ماكس 9 في الخامس من يناير

وبحسب مصادر بلومبرغ، تبحث بوينغ بيع وحدتين على الأقل من أعمالها المرتبطة بالصناعات الدفاعية، في الوقت الذي تواجه فيه أزمة كبيرة تتعلق بالسلامة. وتواصل المستشارون الماليون لـ«بوينغ» مع مشترين محتملين نيابة عن الشركة لتقييم مدى الاهتمام بعدة وحدات أصغر تابعة لها.

ومع تصاعد المخاوف بشأن سلامة طائرات بوينغ، التي تتحمل المسؤولية عما يقرب من نصف الطائرات التجارية في العالم، تُثار تساؤلات حاسمة حول مخاطر السلامة التي لا يمكن تجاهلها. كما تُعيد إلى الواجهة فكرة إن كانت بوينغ باتت «أكبر من أن تفشل»، وهو مصطلح يُطلق عادةً على الكيانات الحيوية للغاية بالنسبة للاقتصاد والتي قد يؤدي تعثرها إلى عواقب وخيمة، مما يستلزم تدخل الحكومة لمنع فشلها. وبالرغم من أن هذا المفهوم مرتبط بقطاع البنوك، لكنه أصبح متزايد الأهمية بالنسبة لبوينغ، نظراً لتأثيرها الهائل على المستوى الوطني والعالمي.

السلامة في قلب النقاش.. هل بوينغ أكبر من أن تفشل؟

تشير لينا خان، رئيسة لجنة التجارة الفيدرالية في أميركا، إلى أن بوينغ أسست لنفسها وضعاً احتكارياً في سوق الطائرات التجارية منذ استحواذها على «ماكدونل دوغلاس»، وهي شركة صناعة طائرات أمريكية، في عام 1997، مما أدى إلى إقصاء آخر منافسيها الكبار محلياً. ولا يقتصر الأمر على هيمنتها في السوق فحسب، بل يرتبط مصير الشركة بالحركة الجوية العالمية وبالمصالح الاقتصادية للولايات المتحدة والعالم. فتُعد الشركة رمزاً للفخر الوطني، إذ وظفت بشكل مباشر 171 ألف شخص في عام 2023، وتبلغ قيمتها السوقية 111 مليار دولار، أي ما يعادل 0.41% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة.

كما تُصنف بوينغ باستمرار ضمن أفضل المصدرين في الولايات المتحدة، فعلى مدى عدة سنوات، ساهم قسم الطائرات التجارية في بوينغ بشكل كبير في صادرات الولايات المتحدة. على سبيل المثال في عام 2018، أعلنت بوينغ تسليم 806 طائرات تجارية ونظراً لأن أسعار القائمة لهذه الطائرات تتراوح من عشرات إلى مئات الملايين من الدولارات لكل طائرة، فيمكن لصادرات بوينغ أن تسهم بعشرات المليارات من الدولارات سنوياً في الاقتصاد الأمريكي. والأمر لا يقتصر على التأثير الاقتصادي المباشر فحسب، بل إن الصناعة بأكملها لها تأثير غير مباشر؛ على سبيل المثال، كل دولار من إنتاج الطائرات يدعم دولاراً آخر على الأقل من نشاط الموردين على جميع المستويات.

وخلال أزمة كورونا، طلبت بوينغ مساعدة مالية من واشنطن بقيمة 60 مليار دولار لنفسها ولشبكة مورديها. في ذلك الوقت، كانت الشركة مرشحاً غير محتمل للدعم الحكومي ومع ذلك، دفعت بوينغ الاحتياطي الفيدرالي لاتخاذ إجراءات غير مسبوقة لتحسين أسواق الائتمان، مما أدى في النهاية لأن تقدم إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب دعماً لشركة تصنيع الطائرات بشكل أكبر مما كانت لتوفره لأي مساعدة حكومية مباشرة.

وبفضل قرار الاحتياطي الفيدرالي بتوظيف ميزانيته الضخمة لشراء سندات الشركة، تم تسهيل الوصول إلى السيولة بشكل كبير، ما شكّل نقطة تحول حاسمة لبوينغ. هذا الإجراء مكّن الشركة في النهاية من تأمين 25 مليار دولار من الاستثمارات الخاصة، ما أتاح لها سحب طلبها للحصول على الإنقاذ الحكومي وتجنب القيود التي كان من المحتمل فرضها عليها.

ويؤكد مروان شحيتلي، الطيار والباحث في مجالات السياسات العامة والعلاقات الدولية، في حديث مع «CNN الاقتصادية» على أن التزام الطيران بمعايير السلامة العالية يتطلب تكاليف مادية كبيرة، ونظراً لأن رفع مستوى هذه المعايير يؤدي إلى زيادة في النفقات. هذا التحدي شهدته بشكل خاص شركات الطيران ذات التكلفة المنخفضة، التي لجأت إلى خفض معايير السلامة لتقليل النفقات، على الرغم من أن هذه المشكلة لا تظهر غالباً بين المصنعين. وتقع على عاتق سلطة الطيران المدني مسؤولية ضمان عدم التضحية بالسلامة مقابل تقليل التكاليف، مما يثير تساؤلات حول دور إدارة الطيران الفيدرالية (FAA) قبل أن تتسبب مشاكل السلامة في بوينغ بوقوع حوادث.

ويضيف شحيتلي أن بوينغ كانت تُعد سابقًا ركيزة للسلامة، وأثناء محاولتها البحث عن الأسباب الداخلية التي أدت إلى تراجع معايير السلامة، بما في ذلك إقالة رئيس برنامج بوينغ 737 ماكس، وتعيين نائب رئيس لجودة الطائرات التجارية، فلا بد أن يخضع عملها لإشراف وتفتيش دقيق من قبل إدارة الطيران الفيدرالية، لأن المعنيين لا يشملون مساهمي بوينغ فحسب، بل يمتدون ليشملوا شركات الطيران والركاب كذلك.

وعلى الرغم من القلق الذي أثارته حوادث بوينغ الأمنية خلال السنوات القليلة الماضية، والحاجة إلى تحرك فوري من بوينغ وإدارة الطيران الفيدرالية، فمن المهم وضع الأمور في نصابها الصحيح. فيعتبر شحيتلي أن الطيران آمن كما لم يكن من قبل، وإن مشاكل السلامة في بوينغ نشأت نتيجة عوامل متعددة، بما في ذلك ضبط الجودة، وخفض التكاليف، والاستخدام المتسرع للمواد المركبة، وتوزيع الصناعة، والتصنيع المتسرع، لكن الزعم بأن بوينغ في حالة فشل هو رد فعل مبالغ فيه.

“بالنسبة لجميع الأطراف المعنية، يكون الفائدة في إصلاح الشركة بدلاً من فشلها، نظرًا لتعدد الأطراف المرتبطة بها، شاملةً الموردين وشركات الطيران وحتى المواطنين الذين يعتمدون على السفر الجوي، هذا يأتي في ظل حقيقة أن بوينغ تمثل جزءًا هامًا من سوق الطيران التجاري

ويقول شحيتلي إن بوينغ بحاجة إلى إعادة هيكلة شاملة في مجال ضبط الجودة والسلامة وسيستغرق الأمر سنوات عديدة حتى تتمكن الشركة من استعادة مكانتها كأكثر المصنّعين أماناً. ومع ذلك، ليس هدم البناء وإعادة بنائه هو الحل، بل الإشراف الدقيق والتفتيش هو ما يُعد الطريق الصحيح.

بوينغ.. ركيزة للدفاع والفضاء الأمريكي

إلى جانب قسم الطائرات التجارية، تُعد بوينغ إحدى أكبر مقاولي الدفاع في الولايات المتحدة، فتنتج وحدة الدفاع والفضاء والأمن لديها مجموعة واسعة من الأجهزة العسكرية، بما في ذلك القاذفات، والمقاتلات، والمروحيات، والطائرات بدون طيار. كما أن لبوينغ دوراً بارزاً في استكشاف الفضاء، إذ تسهم في برنامج إدارة الطيران والفضاء الأميركية ناسا أرتميس الهادف إلى إعادة البشر إلى القمر. وفي عام 2023، بلغت إيرادات بوينغ للدفاع والفضاء والأمن حوالي 25 مليار دولار.

ورداً على طلب من «CNN الاقتصادية»، قال متحدث رسمي في بوينغ «استناداً إلى تدقيق إدارة الطيران الفيدرالية وتخفيضات الجودة لدينا وتقرير لجنة الخبراء الأخير، فإننا نواصل تنفيذ تغييرات فورية وتطوير خطة عمل شاملة لتعزيز السلامة والجودة وبناء ثقة عملائنا وركابهم»، مشيرة إلى أنها «تركز بشكل مباشر على اتخاذ إجراءات مهمة ومثبتة بشفافية في كل منعطف».

وفي ظل الأحداث المتتالية التي واجهتها بوينغ، تبرز الأسئلة حول مكانتها كعملاق «لا يمكن هزيمته» أو «أكبر من أن يفشل» لا سيما لأنها تعتبر لاعباً رئيسياً في الاقتصاد العالمي، مساهمة بشكل كبير في الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة من خلال صادراتها وتوظيفها المباشر وغير المباشر. واليوم تقف الشركة، التي تحولت إلى رمز للابتكار في مجال الطيران والدفاع، عند مفترق طرق، فيما تواجه الحاجة الملحة لتعزيز معايير السلامة والجودة للحفاظ على ثقة عملائها والعامة.