في عالم يتسارع فيه التطور التكنولوجي، يقف الذكاء الاصطناعي كأحد أهم الابتكارات التي تعيد تشكيل حياتنا اليومية، بين الولايات المتحدة والصين، تدور معركة غير مرئية لكنها حاسمة للسيطرة على سلاسل القيم في هذا المجال، فهل نحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة تكنولوجية، أم أنها مجرد منافسة تجارية شرسة؟
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
معركة تدور رحاها حول قطاع يتوقع أن يُضيف للاقتصاد العالمي نحو 15.7 تريليون دولار، بحلول عام 2030 حسب PWC [1] أو قد يصل إلى 4.4 تريليون دولار سنوياً حسب تقديرات شركة مكنزي [2]؛ نحاول الإجابة على هذا التساؤل بشرح قوة الطرفين في مستويات سلاسل قيم الذكاء الاصطناعي وبعيداً عن أي تحرك عسكري أو سياسي مرتبط بتهديد الصين لتايوان، وما يتعلق بذلك من سلاسل قيم مهمة لصناعة الذكاء الاصطناعي عالمياً مرتبطة بالشركة التايوانية.
تنقسم سلاسل القيم بشكل أساسي إلى 4 مستويات أساسية، قد تنبثق عنها تفاصيل أخرى.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
المستوى الأول: التصميم والتصنيع
تستمد الولايات المتحدة قوتها من ريادتها في صناعة أشباه الموصلات، حيث تقود شركات مثل إنتل وNVIDIA وكوالكم وBroadcom تصميم الرقائق المتطورة التي تدعم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، رغم أن التصنيع غالباً ما يتم في الخارج، فإن الابتكار يبدأ في قلب وادي السيليكون، تعتمد الشركات الأميركية على الشركة الهولندية ASML لتوفير خطوط الإنتاج المتقدمة EUV (سبك الرقائق بالأشعة فوق البنفسجية القصوى)، التي حُرمت الصين من الحصول عليها، كما تستعين بشركات يابانية مثل Nikon وCanon للحصول على خطوط إنتاج للرقائق أقل دقة والتي تستخدم في مجالات مختلفة.
كما توفر الولايات المتحدة المواد الأولية وأهمها الغاليوم والجرمانيوم من دول عديدة، أهمها الصين التي تسيطر على 94% من سوق الغاليوم و83% من الجرمانيوم عالمياً [3] والتي تعد مهمة جداً لصناعة الرقائق المتقدمة، وتواجه صناعة أشباه الموصلات في الولايات المتحدة صعوبات كبيرة، حيث فشل قائد تلك الصناعة في الولايات المتحدة (إنتل) في اللحاق بالركب التايواني الذي تقوده الشركة التايوانية TSMC، وتحاول الولايات المتحدة تشجيع عودة صناعة أشباه الموصلات من خلال قانون الرقائق الإلكترونية الصادر عام 2022، الذي يزود الشركات في هذا المجال بـ150 مليار دولار [4] ومزايا أخرى من قروض وإعفاءات ضريبية لبناء مصانعها المستقبلية في الولايات المتحدة.
كما يجدر الذكر أن إنتاج الولايات المتحدة قد انخفض من 40% من السوق العالمي في نهاية التسعينيات من القرن الماضي إلى 10% في وقتنا الحالي [5]، وتجد الشركات الأميركية في تايوان قِبلة لصناعة تصاميم الرقائق المتقدمة، ويشمل ذلك جميع مراكز البيانات وNvidia وApple حتى إنتل نفسها، وتسيطر الشركة التايوانية على 92% من صناعة الرقائق المتقدمة عالمياً، حيث بلغت دقة صناعة الشركة التايوانية 3 نانوميترات، ما يسمح بخفض استهلاك الطاقة وسرعة أكبر، كما تعتمد الولايات المتحدة على استيراد بطاقات الذاكرة من كوريا الجنوبية، خصوصاً من سامسونغ وST Hynix وMicron، في حين تستورد شركات صناعة السيارات في الولايات المتحدة من الشركة الألمانية Infineon لصناعة رقائق التحكم الخاصة بالسيارات.
في المقابل، تسعى الصين لتغطية جميع مستويات سلاسل القيم في الذكاء الاصطناعي، بدءاً من تصميم وصناعة أشباه الموصلات، رغم اعتمادها تاريخياً على الاستيراد الذي يُظهر أهمية سوق الإلكترونيات الصيني للشركات الأميركية، حيث تستورد 25% من إنتاج إنتل [6] ونحو 50% من إنتاج كوالكم [7]، بالتوازي مع ذلك تحقق اليوم الشركات الصينية مثل SMIC تقدماً سريعاً في إنتاج رقائق الذكاء الاصطناعي.
كما في الولايات المتحدة، تعتمد الصين على كل من هولندا واليابان لتوفير خطوط الإنتاج، لكن تتمتع الصين بوجود شركة شنغهاي للمعدات الإلكترونية الدقيقة SMEE، التي أعلنت في شهر أغسطس من عام 2024 عن اكتشاف يسمح لها بصناعة EUV صيني [8]، مشابه لذلك الذي تنتجه الشركة الهولندية ASML، ونجحت هواوي بتقليص الفجوة مع تصاميم الرقائق الأميركية، حيث استطاعت طرح رقائق بدقة 7 نانوميترات، كما أعلنت شركة شاومي عن تصميم بدقة 3 نانوميترات، ويذكر هنا أن الصين تستخدم خطوط إنتاج قديمة DUV (سبك الرقائق بالأشعة فوق البنفسجية العميق) ولذلك تحتاج إلى أن تعرض قرص الرقائق الإلكترونية (Silicon Wafer) عدة مرات لسبك رقائق بتلك الدقة، ما يجعل الرقائق الصينية أكثر تكلفة وأقل كفاءة، لكن إذا ما نجحت SMEE بصناعة EUV شبيهة بما تنتجه الشركة الهولندية، فإن تلك المشكلات ستكون من الماضي، وللصين شركات متخصصة بصنع رقائق السيليكون Everlight وأخرى لإنتاج مسبك الضوء فوق البنفسجي FocusLight، ما يتيح لها تغطية تفاصيل صناعة أشباه الموصلات كافة داخل الأراضي الصينية، ويضيف إلى ذلك سيطرتها على مواد أولية مهمة في تلك الصناعة مثل الغاليوم والجرمانيوم كما سبق ذكره، كما بدأت الصين التخلي تدريجياً عن الاعتماد على الشركة الألمانية Infineon لصناعة رقائق التحكم بالسيارات، معتمدة بشكل كبير لصناعة تلك الرقائق على شركة BYD المحلية.
المستوى الثاني: البنية التحتية
تتمتع الولايات المتحدة ببنية تحتية قوية، متمثلة بمراكز بيانات وخدمات سحابية ضخمة تقدمها شركات عملاقة مثل Amazon Web Services (AWS وMicrosoft Azure وGoogle Cloud، حيث تحتل الولايات المتحدة المركز الأول عالمياً في مراكز البيانات بعدد يصل إلى 5,381 مركزاً، ويتوقع أن تصل الطاقة الاستيعابية إلى 35 ميغاواط في عام 2030. [9]
في الصين، توفر شركات مثل Alibaba Cloud وTencent Cloud وHuawei Cloud القدرة السحابية اللازمة، بالإضافة إلى النماذج اللغوية الكبيرة مثل Pangu-Alpha من هواوي وغيرها، وتأتي الصين في المركز الرابع من حيث عدد مراكز البيانات بعد ألمانيا وبريطانيا [10]، إلا أنها تحتل المركز الثاني من حيث الطاقة الاستيعابية المقدر بـ3.35 غيغاواط في 2029 [11]، كما أن الصين تحتل المركز الثاني من حيث عدد خوادم البيانات المفعلة وبعدد يصل إلى 15.8 مليون خادم، صحيح أنها تشكل نحو نصف العدد في الولايات المتحدة بـ29.3 مليون خادم، إلا أنها تتجاوز باقي دول العالم بكثير مثل ألمانيا (3.5 مليون خادم) وبريطانيا (3.4 مليون خادم) واليابان (2.5 مليون خادم)، ما يجعلها أقرب المنافسين للولايات المتحدة [12].
بالرغم من التحديات التي تواجهها الصين في الحصول على الرقائق المتقدمة، فإنها تعمل على تعويض ذلك بطرق مبتكرة، إما من خلال الاعتماد على رقائق ASCEND التي تنتجها هواوي مع SMIC، أو بشراء عدد أكبر من رقائق إنفيديا الأقل تطوراً (H20) ثم ربطها لتحقيق السرعة المطلوبة.
المستوى الثالث: المنصات
تشمل المنصات الأميركية الرائدة في هذا المجال Snowflake وCloudera وPalantir وInformatica، التي توفر البيئة اللازمة لتخزين البيانات وتحليلها وحوكمة جودتها.
أما في الجهة الأخرى فتوفر الشركات الصينية منصات مثل DataWorks من Alibaba وPaddlePaddle من Baidu بدائل قوية تدعم تطوير وتحليل البيانات.
المستوى الرابع: التطبيقات
أخيراً المستوى الرابع، تمثل التطبيقات المبتكرة للذكاء الاصطناعي التي تصل إلى أيدي المستخدمين مثل ServiceNow، وCopy.ai، وSalesforce وWatsons، وتوفر تلك التطبيقات حلاً لخدمات أصبحت تلقى رواجاً كبيراً، مثل استحداث صورة أو إنشاء نص أو مراجعة رسالة وتحليل البيانات أو حتى فهم البيانات واتخاذ القرار، مثلما تعمل نماذج الوكيل (Agent) التي توفرها OpenAi من تطبيق O1 أو الروبوتات الحديثة التي طرحتها XAI وغيرها، فعلى سبيل المثال: يستخدم نظام MetrixPlus الذكاء الاصطناعي التوليدي GenAi لفهم المحتوى المؤسسي في أي مؤسسة وتقديم اقتراحات كأنه استشاري بشري، لكنه يتمتع بمخزون شامل لبيانات المؤسسة، وتُظهر هذه التطبيقات قدرات معالجة اللغة الطبيعية والتعلم الآلي المتقدمة، ما يجعل الذكاء الاصطناعي متاحاً ومؤثراً في مجموعة واسعة من الاستخدامات.
كذلك في الجهة الأخرى تقدم الشركات الصينية تطبيقات الذكاء الاصطناعي عملاقة مثل DuerOS من Baidu وAliGenie من Alibaba، بالإضافة إلى تطبيقات أخرى مثل WeChat Mini Programs، هذه التطبيقات تُظهر حلول الذكاء الاصطناعي المبتكرة في الأجهزة الذكية وخدمة العملاء وغير ذلك، ما يُبرز تركيز الصين على التنفيذ العملي على نطاق واسع، فعلى سبيل المثال بلغ مستخدمو تطبيق WeChat نحو 1.2 مليار مستخدم، وأكثر الألعاب في العالم باستخدام الذكاء الاصطناعي هي صناعة صينية مثل Honor of Kings وPUBG من شركة Tencent الصينية.
خاتمة
من هنا تظهر قوة الصين كمنافس قوي للولايات المتحدة في سلاسل قيم الذكاء الاصطناعي، ويوضح المقال قدرة الصين الفريدة على تقديم حلول شاملة لسلاسل قيم الذكاء الاصطناعي وتحقيق الاكتفاء الذاتي، فبينما تحاول الولايات المتحدة تحجيم القدرات الصينية لأبعد فترة زمنية ممكنة، تارةً بعقوبات وتارةً بحرمان من الوصول إلى الرقائق المتقدمة التي تصممها إنفيديا أو حتى تصنيع تصاميم الشركات الصينية في تايوان، وآخرها في ديسمبر 2024 لحرمان الصين من الحصول على كرت الذاكرة [13] المتقدم الذي تصنعه شركات كورية الجنوبية، الذي يعد مهماً لاستكمال معالجة البيانات الخاصة بالذكاء الاصطناعي، أو من خلال استقطاب صناعة أشباه الموصلات في أراضي الولايات المتحدة.
لا نعلم لمتى سنبقى نشاهد مسرحية عض الأصابع أو شد الحبل بين الطرفين، لكن يتجلى لكل مختص في هذا المجال الفرص الكبيرة التي يمكن أن يقطفها الطرفين من خلال اتفاق يضمن حصة كافية للجميع، فإن سوق الذكاء الاصطناعي كبير ويتسع الجميع، لذا نرجو أن يظهر عاقل يجمع الطرفين على طاولة تحمل لنا استخدام أفضل ما توصل إليه الذكاء الاصطناعي بسلام وأمان.
في الأخير قد بدأت مقالي بالبرغر والنودلز لأنني كنت جائعاً عند كتابته، لكن أرجو أن تنطلق من المنطقة العربية نماذج منافسة للطرحين الأميركي والصيني، وقادرة على تلبية الطلب المحلي، وبدأت بعض المحاولات الجريئة من G42 في الإمارات وSdaia في السعودية لطرح نماذج مدربة على محتوى محلي، بحيث أضمن أن يكون عشائي من مطبخ عربي، إمّا كبسة سعودية أو هريس إماراتي.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكلٍ من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.