توشك الهند على كتابة تحول جديد في تاريخ التركيبة السكانية خلال هذه الأيام، فبعد أن نشأ معظم العالم مع فكرة حصول الصين على لقب أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، ها هي الهند تسحب البساط منها، في الوقت الذي تجمع بين معادلة صعبة وهي استمرار الفقر على الرغم من النمو الاقتصادي.
كيف انفجر التعداد السكاني للهند حتى تجاوز الصين؟
على الرغم من حسابات الأمم المتحدة الحديثة، التي أظهرت أنه بحلول هذا الأسبوع، ستمتلك الهند عدداً أكبر من الناس مقارنة بالصين، فإن الأمر ليس حديثاً، بل كان متوقعاً، فما السبب؟
بالطبع إنها الخصوبة، فهي المفتاح الرئيسي لفهم كيفية ارتفاع عدد سكان أي دولة أو انخفاضه؛ ففي ستينيات القرن الماضي، بلغ معدل الخصوبة في الهند 6 وهو يعادل المعدل الحالي لبعض الدول الإفريقية الآن، علماً أن متوسط معدل الخصوبة، حتى تتمكن الدول من الحفاظ على عدد سكانها أو حتى بلوغ معدلات نمو واضحة، يجب أن يكون 2.1.
قبل سنوات، أعرب رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي عن قلقه بشأن الانفجار السكاني في الهند، وأثنى على العائلات التي درست تأثير إنجاب المزيد من الأطفال على حياتهم وعلى الدولة، قائلاً «في القرن الحادي والعشرين، تبدأ القدرة على تحقيق الأحلام من الإنسان والعائلة، فإذا كان السكان غير متعلمين أو غير أصحاء، فلا مجال لسعادة الأفراد أو الدولة».
لكن معدل الخصوبة في الهند لم يحافظ على مستواه المرتفع، إذ أوضحت الحكومة الهندية أن معدل الخصوبة الإجمالي في البلاد انخفض في أحدث تقييم بين عامي 2019 و2021، ليصل إلى 2.0، مقارنة بالفترة بين عامي 1992 و1993 التي وصل فيها إلى 3.4.
ومع ذلك، ففي الوقت الذي استمرت فيه الهند بالمضي قدماً في إنجاب المزيد من الأطفال، تسببت السياسات التقييدية المفروضة على العائلات الصينية منذ عقود مضت بإنجاب طفل واحد في تباطؤ معدل المواليد بشكل كبير.
من المتوقع أن يصل عدد سكان الهند إلى 1.429 مليار شخص هذا العام، متجاوزة الصين لأول مرة منذ أن بدأت الأمم المتحدة في تسجيل تعداد السكان عام 1950.
إذاً، كيف زاد سكان الهند رغم انخفاض معدل الخصوبة؟
حللت «CNN» بيانات التوقعات السكانية العالمية الصادرة عن الأمم المتحدة وتحدثت إلى الخبراء للتعمق في الأمر.
يمكن تفسير الزيادة السكانية بكل بساطة، فعندما ينخفض معدل الخصوبة، يستمر السكان في النمو لعدة عقود.
– النمو بوتيرة بطيئة
قال كبير الباحثين في المعهد الفيدرالي لأبحاث السكان، فرانك سواكزني، «إن عدد سكان الهند سيستمر في النمو ببطء بسبب العدد الكبير من النساء اللائي يدخلن سنوات الإنجاب، حتى مع انخفاض معدل الخصوبة».
كما يختلف معدل الخصوبة بين شمال الهند وجنوبها، وهو أمر ليس غريباً بالنسبة لدولة بهذا الحجم.
قالت باربرا سليغمان، كبيرة مسؤولي الاستراتيجية والنمو ونائبة الرئيس في مكتب المراجع السكانية «بي آر بي» وهي مجموعة غير ربحية تركز على البيانات الديموغرافية والبحث السكاني، «إنه من المدهش أن أعلى معدلات الخصوبة في الهند البالغ 3.0 في بيهار، ليس مرتفعاً حقاً».
وأضافت «من اللافت أن أعلى معدلات الخصوبة موجودة في خمس ولايات شمالية وهي بيهار، وميغالايا، وأوتار براديش، وجاركند، ومانيبور».
ربما تجاوزت الهند عدد سكان الصين، لكن بيانات الأمم المتحدة تظهر أيضاً أن معدل نموها قد تباطأ، فبين عامي 1971 و1981، نما عدد سكان الهند بمعدل 2.2 في المئة كل عام، لكنه تباطأ من 2001 إلى 2011 إلى 1.5 في المئة وهو أقل الآن.
وتوقعت الأمم المتحدة أن يبلغ عدد سكان الهند ذروته عند نحو 1.7 مليار نسمة في عام 2064.
– دعم شيخوخة السكان
تقل معدلات الخصوبة في الولايات الهندية الجنوبية، فعلى سبيل المثال هناك غوا التي تتمتع بمعدل خصوبة مماثل لبعض البلدان في جنوب أوروبا، لكنها تدعم حالياً شيخوخة السكان، ما يحافظ على النمو السكاني.
وفقاً لتصنيف الأمم المتحدة، أصبحت الهند الآن مجتمعاً شيخاً ما يعني أن 7 في المئة من سكانها يبلغون من العمر 65 عاماً أو أكبر.
على سبيل المثال في ولاية كيرالا الجنوبية، تضاعف عدد السكان الذين تزيد أعمارهم عن 65 عاماً في الثلاثين عاماً الماضية، وهو الآن يشكل نسبة تبلغ نحو 12 في المئة.
ومن المتوقع أن ينتشر النمط ذاته في المزيد من الولايات بالنظر إلى معدل الخصوبة الإجمالي المنخفض.
قالت سليغمان «إن المزيد من الولايات ستتقدم في العمر على مدار الثلاثين عاماً المقبلة بالطريقة ذاتها التي أصبحت عليها ولاية كيرالا الآن».
مستقبل الهند الاقتصادي في ظل التعداد السكاني ؟
كشفت بيانات الأمم المتحدة أن أكثر من 40 في المئة من سكان الهند تقل أعمارهم عن 25 عاماً في الوقت الحالي.
وفي 2021، بلغ عدد الأفراد في سن العمل في الهند أكثر من 900 مليون نسمة، ومن المتوقع أن ينمو هذا العدد ليصل إلى مليار خلال العقد المقبل، وفقاً لتوقعات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
ليست القوى العاملة الضخمة والأجور المنخفضة نسبياً هي ما يسهم في ازدهار الهند اقتصادياً؛ بل إن تلك القوى العاملة تتحدث الإنجليزية بطلاقة، وتملك معرفة رقمية قوية، فضلاً عن سمعتها الطيبة في ريادة الأعمال؛ ما يجعل الهند مقصداً للشركات الغربية الباحثة عن بديل للصين.
ولكن من المتوقع أن تتباطأ مساهمة الهند في نسبة السكان في سن العمل خلال العقود القادمة، ما يفسح المجال أمام السكان الأصغر سناً من العمال الخارجين من إفريقيا.
لذلك، يوصي الخبراء بضرورة وجود سياسات قوية حتى تتمكن الهند من الاستفادة من شبابها.
قالت مديرة المجلس الوطني للبحوث الاقتصادية التطبيقية والأستاذة في جامعة ميريلاند لشبكة «CNN»، سونالدي ديساي «إن العدد الكبير من الأفراد لا يكفي، لذلك نحن بحاجة إلى وضع خطة شاملة».
وأضافت «نحن بحاجة إلى أشخاص لديهم المهارات اللازمة لشغل بعض الوظائف عالية القيمة واقتصاد ينتج هذه الوظائف عالية القيمة».
قالت بونام موتريجا، المديرة التنفيذية لمؤسسة السكان في الهند «إن معالجة الفجوة أمر حتمي بالنسبة للهند؛ حتى تتمكن من تحقيق تطلعاتها لتكون دولة متقدمة».
الاقتصاد الهندي بين مطرقة عمل المرأة وسندان الفقر
تتقدم الهند في جداول الترتيب الاقتصادي العالمي؛ فاقتصادها الذي يبلغ نحو 3.5 تريليون دولار هو الآن خامس أكبر اقتصاد في العالم ومن بين الأسرع نمواً.
وكان البنك الدولي قد توقع أن تتفوق الهند في الأداء على جميع الاقتصادات الرئيسية الأخرى بنمو 6.6 في المئة، مقارنة بنحو 4.3 في المئة للصين، و0.5 في المئة فقط للولايات المتحدة.
وتشير بعض التوقعات إلى إمكانية وصول ناتجها المحلي إلى نحو 10 تريليونات دولار بحلول عام 2035.
على الرغم من ذلك، فإن الهند واحدة من أفقر دول العالم من حيث نصيب الفرد، ويقول الخبراء إنه بينما يوجد في البلاد عدد كبير من الشباب المستعدين والراغبين في العمل، تظهر الأرقام أنه لا توجد وظائف كافية لهم.
تزداد المشكلة سوءاً في المناطق المحرومة اقتصادياً في الشمال والتي تعتمد بشكل كبير على الزراعة، فهناك أوتار براديش، على سبيل المثال، التي تمثل 17 في المئة من سكان الهند؛ لكن لديها 9 في المئة فقط من وظائفها الصناعية.
تقول سابينا ديوان، الزميلة الزائرة في مركز أبحاث السياسات «إن النمو السكاني يمكن أن يكون قوة إنتاجية هائلة للاقتصاد؛ لكن النمو الاقتصادي يتوقف على توفير وظائف عالية الجودة وذات أجر جيد».
ويبدأ ذلك بزيادة الاستثمار في التعليم بعد المدرسة الابتدائية، وخاصة بالنسبة للنساء.
قالت موتريجا «إننا بحاجة إلى تعزيز نظام التعليم الثانوي لدينا، حتى يكون أكثر أماناً وأقرب إلى مكان وجود الفتيات، لأن العديد من الآباء يمتنعون عن إرسال بناتهم إلى المدارس الثانوية البعيدة؛ بسبب القضايا الأمنية».
تظهر بيانات البنك الدولي أن مستوى مشاركة المرأة في القوى العاملة بلغ 19 في المئة فقط في عام 2021؛ وهذا أقل من نصف معدل مشاركة القوى العاملة الإجمالي البالغ 46 في المئة، ما يجعله أحد أدنى المعدلات في آسيا.
قالت ديساي إن الهند لا تحتاج فقط إلى سياسات أفضل لتشغيل النساء؛ بل إنهن بحاجة إلى ضمان قدرتهن على الاستمرار.
بينما أضافت ديوان «إذا لم تحقق الهند التوازن الصحيح لخلق وظائف جيدة كافية، فإننا نهدر الإمكانات الهائلة للقوى العاملة، وبذلك تكون الهند قد خاطرت بتبديد الميزة الكبيرة المتمثلة في تعدادها السكاني الأكبر عالمياً، فضلاً عن أكبر حصة في العالم من رأس المال البشري في سن العمل».
(كارلوتا دوتو وريا موغول – CNN)