تعتبر صناعة الاستشارات من أكبر القطاعات الخدمية عالمياً، ورغم النمو الذي يشهده هذا القطاع مع تنامي التوسعات الاقتصادية والتطورات التكنولوجية وزيادة التعقيدات في بيئات العمل، فإن هزة كبرى تشهدها هذه الصناعة مؤخراً مع تصاعد دور الذكاء الاصطناعي وقرارات إدارة ترامب الجديدة، ما قد يجعل الوظائف الاستشارية، التي لطالما كانت محط أنظار خريجي كليات الأعمال، أقل جاذبية من أي وقت مضى. ففي السابع من مارس يستحق موعد ردود الوكالات الفيدرالية الأميركية على المذكرة التي وجهها ستيفن إيهيكيان، المدير التنفيذي المؤقت لإدارة الخدمات العامة (GSA)، بتاريخ 26 فبراير 2025 إلى كبار المسؤولين التنفيذيين في المشتريات عبر الوكالات الفيدرالية لمراجعة وإمكانية إنهاء العقود الاستشارية مع أكبر عشر شركات استشارية من حيث الأجور.
كما أوقف صندوق الاستثمارات العامة (PIF) بداية الشهر الجاري التعامل مع PwC لمدة عام.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
الأسباب والأبعاد
ألزمت مذكرة ادارة الخدمات العامة الأميركية الوكالات بمراجعة عقود أكبر عشر شركات استشارية هي: ماكينزي وشركاؤه، وأكسنتشر، وديلويت، وبوز ألين هاملتون، وإرنست أند يونغ، وغايدهوس، وآي بي أم، وبرايس ووترهاوس، وبين وشركاؤوه، وأكد إيهيكيان في المذكرة أن «هذا الوضع يحتاج إلى التغيير، ويجب أن يتغير فوراً».
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
كما تم توجيه الوكالات الفيدرالية إلى مراجعة جميع العقود مع هذه الشركات، وإنهاء أي عقود غير ضرورية أو التي تفتقر إلى دعم تقني جوهري، أما بالنسبة للعقود التي تُعتبر ضرورية، فيجب على الوكالات تقديم بيان رسمي موقّع من مسؤول رفيع يبرر الحاجة إليها.
وفقاً لتقارير صادرة عن مكتب المساءلة الحكومية الأميركي (GAO)، أنفقت الحكومة الفيدرالية الأميركية نحو 694 مليار دولار على العقود في السنة المالية 2022، بزيادة قدرها 3.6 مليار دولار على السنة المالية 2021 بعد تعديل التضخم، وفي السنة المالية 2023، ارتفع هذا الرقم إلى 759 مليار دولار، ما يشير إلى زيادة قدرها 33 مليار دولار مقارنة بالسنة المالية السابقة. بالإضافة إلى ذلك، حددت إدارة الخدمات العامة الأميركية (GSA) أن أكبر عشر شركات استشارية من المتوقع أن تتلقى أكثر من 65 مليار دولار في الرسوم في عام 2025 والسنوات اللاحقة.
وتسلط هذه الأرقام الضوء على النفقات الكبيرة التي تخصصها الحكومة الفيدرالية للعقود الاستشارية مع الشركات الخاصة.
أبعاد عالمية
تتماشى هذه المبادرة مع أهداف الإدارة الفيدرالية الأميركية للقضاء على الهدر، وتقليل الإنفاق، وتحسين الكفاءة داخل العمليات الحكومية، ولكن حكومات أخرى بدأت تُنهي عقود الاستشارات بسبب ارتفاع التكاليف، فمؤخراً أوقف صندوق الاستثمارات العامة (PIF)، الذي يُدير أصولاً تفوق 900 مليار دولار، التعامل مع PwC لمدة عام، في خطوة تؤكد زيادة التدقيق في الامتثال والحوكمة داخل قطاع الاستشارات، كما أن الصين شددت الرقابة على شركات الاستشارات الأجنبية وكثفت الإشراف التنظيمي على الشركات الاستشارية الأجنبية حتى أنها غرمت مجموعة مينتز الأميركية 1.5 مليون دولار بسبب إجراء تحقيقات غير مصرح بها.
ووفق البيانات الصحفية المجمعة 98 في المئة من إيرادات بوس ألين هاميلتون تأتي من عقود حكومية أميركية، كما أنفقت بريطانيا نحو 3.4 مليار جنيه إسترليني على الاستشارات في 2024 أي بزيادة 62% على مستويات ما قبل الجائحة، كما لجأت أستراليا إلى خفض إنفاقها على الاستشارات بمقدار 891 مليون دولار خلال عامين.
وتشير هذه التحركات إلى اتجاه عالمي متزايد من قبل الحكومات نحو الاستغناء عن المستشارين الخارجيين والاعتماد بشكل أكبر على تطوير القدرات الداخلية ولكأن الحكومات في جميع أنحاء العالم، تعيد تقييم اعتمادها على الشركات الاستشارية مع تزايد المخاوف بشأن الإنفاق المفرط والعائد المحدود.
ثلاثة عوامل رئيسية تبرر اللجوء إلى هذه الإجراءات، منها التكلفة مقابل القيمة فالمستشارون يتقاضون الملايين، لكنهم لا ينفذون الحلول، أما العامل الثاني فهو الذكاء الاصطناعي والأتمتة فاليوم بات الذكاء الاصطناعي يقوم بتحليل الأسواق، وبناء الاستراتيجيات، وتوقع الاتجاهات دون الحاجة إلى رسوم استشارية ضخمة، والعامل الثالث هي لجوء الحكومات إلى الاستقلالية عوضاً عن الاعتماد المفرط على المستشارين الخارجيين يُضعف القدرات الداخلية.
موجة تسريحات
لم تقتصر الضغوط على إلغاء العقود الحكومية، بل امتدت إلى الشركات الاستشارية نفسها، التي أصبحت تعاني من تراجع الطلب على خدماتها حيث ضربت موجة تسريحات القطاع، ونقلت رويترز في أكتوبر الماضي أن شركة ماكينزي الاستشارية التي يقع مقرها في الولايات المتحدة تعمل على تجديد أعمالها في الصين بعد تقليص عملائها المرتبطين بالحكومة، وخفض نحو 500 وظيفة، وهو ما يعادل ثلث قوتها العاملة في الصين، كما عرضت على موظفيها من المستوى المتوسط حزم إنهاء خدمة تصل إلى 9 أشهر من الرواتب، في خطوة تُظهر الحاجة إلى خفض التكاليف التشغيلية.
كما لجأت برايس ووترهاوس كوبرز إلى تسريح 1,800 موظف، وهو ما يُمثل 2.5% من إجمالي قوتها العاملة، نتيجة انخفاض الطلب على الخدمات الاستشارية كما نقلت صحيفة وول ستريت جورنال سبتمبر الماضي.
أما أكسنتشر (Accenture) فبعد أن أعلنت في 2023 عن خططها لتسريح، وهو أكبر عدد من التسريحات في تاريخ الشركة، بسبب تراجع إنفاق الشركات على الخدمات الاستشارية والتكنولوجيا ذكرت الشركة في سبتمبر الماضي تسريح نحو 19,000 موظف قرابة 2.5 في المئة من إجمالي قوتها العاملة، في الأشهر الثمانية عشر التالية.
هذه الأرقام تُبرز عمق الأزمة التي يواجهها قطاع الاستشارات، خاصة في ظل التحولات الكبيرة التي يشهدها السوق العالمي.
الذكاء الاصطناعي بديلاً مغرياً
تشير التقديرات بوصول قيمة سوق الخدمات الاستشارات الإدارية العالمية إلى نحو 811 مليار دولار عام 2031 أي بنمو سنوي مركب منذ لعام 2021 بنحو 10%.
قد يكون الذكاء الاصطناعي أحد أكبر العوامل التي تُهدد مستقبل شركات الاستشارات التقليدية، حيث أصبح بإمكان الشركات استخدام أدوات تحليل البيانات والتعلم الآلي بدلاً من اللجوء إلى استشاريين مكلفين.
وإلى جانب التكلفة يوفر الذكاء الاصطناعي دقة وسرعة في تحليل الأسواق، التنبؤ بالاتجاهات، ووضع الاستراتيجيات في وقت قياسي.
وكانت شركات الاستشارات من أكثر الداعين لتبني الذكاء الاصطناعي لما يوفره من قيمة اقتصادية وإنتاجية، ولكن هل انقلب اليوم السحر على الساحر أم ستتمكن هذه الشركات من إعادة ابتكار نفسها في عصر الذكاء الاصطناعي.