زادت فجوة التمويل للسلطة الفلسطينية بمعدل ثلاثة أضعاف لتصل في عام 2024 إلى 1.86 مليار دولار بعد أن قدرت نهاية عام 2023 بنحو 682 مليون دولار، وفي ظل غياب بدائل التمويل لتغطية هذا العجز يكاد يكون مستحيلاً على السلطة الفلسطينية توفير الموارد الكافية.
ويزداد الوضع سوءاً مع استمرار سياسة إسرائيل في زيادة الاستقطاعات الإسرائيلية من تخليص الإيرادات في أعقاب الصراع.. فمنذ أكتوبر 2023، زادت إسرائيل الخصومات الشهرية إلى 500 مليون شيكل في المتوسط، أي بارتفاع عن المعدل الشهري السابق البالغ 200 مليون شيكل، وكانت تحويلات إيرادات المقاصة أيضاً توقفت بالكامل لمدة شهرين تقريباً في النصف الأول من عام 2024، ما سيسبب مخاطر كبيرة تؤدي إلى انهيار نظامي.
هذا الإنذار أطلقه تقرير البنك الدولي الصادر في شهر سبتمبر الحالي في سياق الذكرى السنوي لحرب غزة والذي حدث من خلاله بعض التوقعات التي أصدرها في تقريره السابق خلال شهر مايو الفائت.
ودق التقرير ناقوس الخطر حول مخاطر انهيار المالية العامة للاقتصاد الفلسطيني فبين البارحة واليوم يبدو أن الوضع يزداد سوءاً مع تفاقم عدد ضحايا النزاع إلى نحو 40 ألف قتيل و30 ألف جريح و1.9 مليون نازح.
ووصف البنك الدولي أن الاقتصاد الفلسطيني ينهار وسط تفاقم تدهور الأنشطة الاقتصادية الأساسية، الأمر الذي نجم عنه أزمات مالية واجتماعية كبيرة.
وكان التقرير السابق قد توقع دخول الاقتصاد الفلسطيني مرحلة الانكماش بنسبة تتراوح بين 6.5 و9.6 في المئة، ووفقاً للبيانات المحدثة انكمش اقتصاد غزة بنسبة 86 في المئة خلال الربع الأول من العام الحالي، فيما شهدت الضفة انكماشاً بنسبة 25 في المئة، وانخفض الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة 35 في المئة، وهي النسبة الأكبر منذ اندلاع حرب غزة.
وكان البنك الدولي والمفوضية الأوروبية قد أعلنا رسمياً خلال الشهرين الماضيين عن نيتهما زيادة مخصصات المنح للسلطة الفلسطينية على المدى القريب شريطة وضع خطة إصلاحية شاملة.
مؤشرات مقلقة
تجاوز التضخم معدل 250 في المئة، وارتفعت أسعار السلع الأساسية بشكلٍ كبير رغم استقرار الأسعار في غزة خلال أغسطس 2024، حيث وصل مؤشر أسعار المستهلك الشهري (CPI) عند 1.9 بالمئة، ولاحظ التقرير ارتفاعاً في مؤشر أسعار المستهلكين السنوي بشكل كبير، بسبب الاضطرابات الناجمة عن الصراع.
وقد أدى النقص في السلع الأساسية إلى تقييد القدرة الشرائية لمئات الآلاف من الأسر بشكلٍ كبير، بغض النظر عن مواردها المالية، وظلت أسعار المواد الغذائية مرتفعة بنسبة 140 في المائة مقارنة بشهر أغسطس 2023 بسبب التحديات في الحصول على الغذاء، وزيادة تكاليف النقل، وانخفاض حجم المساعدات.
وفي الضفة الغربية تشير المؤشرات إلى استقرار أسعار السلع رغم ارتفاع مؤشر أسعار المستهلك لشهر أغسطس 2024 بنسبة 1.5 بالمائة مقارنة بالشهر السابق.
وأشار تقرير البنك الدولي إلى بلوغ معدلات البطالة مستويات قياسية، حيث تجاوزت في المتوسط 50 في المئة مع توقف العمليات التجارية في غزة وتركت نحو 87.2 في المئة من الأسر بلا دخل، وذلك بسبب فقدان الوظائف وتقصير ساعات العمل، فضلاً عن إبلاغ ثلثي الشركات في الضفة الغربية عن تخفيض في أعداد القوى العاملة.
وأعاقت الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية الزراعية بما في ذلك الآبار والألواح الشمسية الأنشطة الزراعية، وزادت من تكاليف الإنتاج في الاقتصاد الزراعي الغذائي الذي كان يوفر في عام 2020 فرص عمل لنحو 13 في المئة من السكان.
وتضررت المحافظات بشكل خاص مثل خانيونس، مدينة غزة، وشمال غزة بنسبة 70 بالمائة من أراضيها الزراعية.. ونتيجة لذلك، يعاني مليونا شخص اليوم من خطر المجاعة.
ويكشف برنامج يونوسات (UNOSAT) وتحليل الاستشعار من قبل مركز الأمم المتحدة للأقمار الصناعية، أن 63% من الأراضي الزراعية الدائمة في غزة شهدت انخفاضاً في إنتاجية المحاصيل ما أدى إلى تفاقم الأزمة الإنسانية.
وتشير التقديرات كذلك إلى تعرض ما يقرب من 95 في المئة من مرافق التعليم الأساسي والثانوي والثالث للتلف أو التدمير.
ويواجه القطاع الصحي خطر الانهيار بسبب الأوضاع الأمنية وانقطاع الخدمات الطبية.. وتوقف نحو 80 في المئة من مراكز الرعاية الأولية عن العمل ولم يبقَ سوى 17 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى لديها القدرة على استيعاب المرضى.
وأشار تقرير البنك الدولي إلى أن الصراع أدى إلى زيادة حادة في معدلات الفقر في غزة بنسبة 100%، بينما في الضفة الغربية تضاعف الفقر القصير الأجل خلال عام واحد من 12% في منتصف 2023 إلى 28% حالياً.
التصنيف الدولي
لقد أدى الصراع إلى انخفاض حاد في مستويات المعيشة للأسر الفلسطينية، ما أدى إلى انخفاض وضع الدولة ذات الدخل المتوسط الأدنى في تصنيف دخل البلدان التابع للبنك الدولي.. وفقاً لأحدث تقارير البنك الدولي لمؤشرات التنمية في الأراضي الفلسطينية فقد انخفض نصيب الفرد من الدخل القومي الإجمالي إلى 4220 دولاراً أميركياً عام 2023، أي أقل بنسبة 11 بالمائة عما كانت عليه عام 2022. ونتيجة لذلك، تم تخفيض تصنيف الدخل في الأراضي الفلسطينية إلى مستوى أدنى من المتوسط بعد أن كان من الدخل المتوسط الأعلى قبل الصراع.
الأمر الذي خلق المزيد من التباين بين مستويات المعيشة في غزة وتلك الموجودة في الضفة الغربية. ففي غزة، انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي الاسمي بنسبة 28 في المئة (على أساس سنوي)، يصل إلى 1,087 دولاراً أميركياً عام 2023، ويمثل تقريباً فقط خمس الناتج المحلي الإجمالي للفرد في الضفة الغربية.
توصيات البنك
وأوصى تقرير البنك -الذي رأى كماً من التحديات أمام الحكومة الجديدة المعينة منذ 5 أشهر- بمجموعة إجراءات الواجب اتخاذها للحد بوقف الأعمال العدائية بالدرجة الأولى مع التراجع عن القرارات الأحادية بشأن الخصومات من إيرادات المقاصة ضروري لاستدامة المالية العامة للرواتب والتقاعد والخدمات الاجتماعية.
وناشد البنك بضرورة تضافر جهود المجتمع الدولي لتحفيز التمويل بهدف الإبقاء على الخدمات العامة والبدء بالتخطيط لإعادة الطويل الأمد للتعافي والإعمار
ونصح البنك الدولي بتعزيز المبادرات لتنمية التجارة وتقوية القطاع الخاص الذي يبقى أمراً مُلحّاً لمصادر الدخل من جهة وللحفاظ على النسيج الصناعي الذي سيكون حاسماً لتعافٍ شامل ومستدام.
وفي سياق يتعرض فيه القطاع المالي الفلسطيني لضغوط، فإن الحفاظ على علاقات المراسلة المصرفية مع البنوك الإسرائيلية أمر حيوي لتجنب المزيد من التداعيات الاقتصادية.. وأخيراً، يجب على الحكومة الفلسطينية التحرك بسرعة نحو إعطاء الأولوية وتنفيذ الإصلاحات السياسية، خاصة في مجالات الحوكمة والاستدامة المالية.
وتجدر الإشارة إلى أن بياناً صادراً عن رؤساء اللجنة الدائمة المشتركة بين وكالات الإغاثة والناشطين ناشد نهار الثلاثاء الماضي (23 سبتمبر 2024) بضرورة التحرك للحد من الفظائع بشأن الوضع في الأراضي الفلسطينية المحتلة «يجب وضع حد لهذه الفظائع والتوصل إلى وقف إطلاق نار مستدام وفوري وغير مشروط وإلا سوف يخلف عواقب عالمية لا يمكن تصورها».
وحث البيان زعماء العالم على استخدام نفوذهم لضمان احترام القانون الإنساني الدولي والقانون الدولي لحقوق الإنسان وأحكام محكمة العدل الدولية من خلال الضغط الدبلوماسي والتعاون لإنهاء الإفلات من العقاب.