سيبقى النفط أكسجين المصانع، ووقود الطائرات، وشريان الحياة لاقتصادات الشرق والغرب، فكل خطوط الإنتاج، من أعقد المصانع إلى أبسط المركبات، ستبقى معتمدة على قطرة منه لتدور العجلات وتنبض الأسواق.
هو ليس فقط طاقة، بل هو سياسة، هو اقتصاد، باقٍ في كل معادلات الإنتاج والنمو، ولا يمكن استبداله بضغطة زر، ولا تجاوزه بقرار فوقي.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
من البئر إلى المنصة، ومن الشاحنات إلى أنابيب الغاز، ما زال النفط يُدير كل شيء، إنه السلعة الأولى التي تدفع الاقتصاد إلى الأمام، وتُعيد تشكيل خرائط التحالف والصراع، مهما تحدثت مؤسسات الطاقة المتخصصة عن توقعات متشائمة لنمو الطلب العالمي في المستقبل، يبقى النفط نفطاً.
برميل النفط قد يهبط، قد يتعثر، يلامس القاع، لكنه لا يفرغ أبداً، كما ارتفع من دون الصفر في 2020، سيرتفع مجدداً إلى ذروة أبريل 2022، ولم لا؟.. ربما ليس غداً، وربما ليس هذا العام، لكنه قادم.. وإن طال الزمن.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
تبدأ قصة اليوم، من مساء 20 أبريل من عام 2020، اهتزّ أحد أعرق أسواق السلع في العالم، وتبددت قواعد المنطق الاقتصادي على قارعة شاشات التداول.. ماذا يحدث؟.. النفط دون الصفر.
في ذلك اليوم، لم يعد النفط سلعة تُشترى وتُباع، بل أصبح عبئاً على مَن يحوزه... حتى ‘ن حامليه راحوا يدفعون المال للتخلص منه.
الكونتانغو
كانت أوقات عصيبة دون شك، فالجميع استدعى من ذاكرته الأكاديمية مفهوم «الكونتانغو» يوم الانهيار، لم يكن المفهوم التقليدي له قائمًا بمعناه الدقيق فما حدث في أبريل 2020 كان أقرب إلى تشوه زمني في تسعير الخوف.
في لحظة حرجة، تساوى السعر الفوري والآجل بل إن الآجل بات أقل، مع اقتراب موعد تسليم العقود لشهر مايو. لم يعد هناك «غدٌ أفضل»، بل مجرد سباق محموم للخلاص من حمولة لا تجد مستقراً.
الوباء يثقب برميل النفط
لم يكن النفط وحده من انهار، بل انهار معه الإيقاع اليومي للبشرية.
جائحة كورونا أغلقت الأبواب، عطّلت الطائرات، أطفأت المحركات، وجعلت البراميل تُكدس فوق بعضها حتى اختنقت الخزانات.
الطلب انهار إلى الحضيض، ولم يجد العرض المتدفق من الآبار سوى الفراغ ليسكن فيه.
مشهد غريب عجيب.. كبرى الدول المنتجة تفتح الصنابير أكثر، لا أقل، في حرب أسعار أشعلت السوق زيتاً فوق نيرانٍ خامدة.
البرميل الصفري
حين دقّت عقارب الساعة نحو نهاية جلسة التداول في نيويورك، كان هناك من يدفع 37 دولاراً للبرميل فقط كي لا يستلمه.
من يملك عقد مايو كان عليه أن يجد خزاناً، ناقلة، أو حتى حفرة.. لكنه لم يجد شيئاً، فأُجبر على دفع المال للمشترين كي «يأخذوه منه».
كانت تلك المرة الأولى في التاريخ التي يُباع فيها النفط بالسالب.
هنا، وُلِد مفهوم «البرميل الصفري» لا كمصطلح فني، بل كواقع نفسي ومالي. لم تعد قيمة النفط تُقاس بمدى الحاجة إليه، بل بكلفة التخلص منه.
كان البرميل يعني تكاليف تخزين، مخاطر قانونية، ومجهولاً لوجستياً. لم يكن له ثمن.. بل عبء.
الذعر يسود
انهارت الصناديق، تخلّت شركات الوساطة عن عملائها، وامتلأت شاشات التداول الفورية والآجلة بالأحمر الداكن، في تلك اللحظة، لم يعد أحد يتحدث عن الربح، بل عن «النجاة»، ثم عاد، لكن كما في القصص التي تعشق التحول، عاد الذهب الأسود ليلمع.
مع منتصف 2021، عادت المصانع للعمل، وفتحت المطارات أبوابها، وبدأت الدول تلملم شظايا اقتصادها، تدخلت «أوبك+» من جديد، هذه المرة على قلب رجلٍ واحد، لتقود مشهد خفض الإنتاج واستعادة التوازن.
الحرب الروسية الأوكرانية
ثم جاء 24 فبراير 2022.. يوم اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، وبينما كانت الدبابات تتقدم نحو كييف، كانت أسعار النفط تتسلق جدار الذعر العالمي لتندفع صناديق التحوط وشركات الشحن والمصافي وحتى صانعي القرار إلى تأمين احتياجاتهم بأي ثمن.
الحديث عن العقوبات الغربية على روسيا، أجّج القلق من اختناقات توريد غير مسبوقة، وفي مشهد يناقض كل ما سبق بعامين، قفزت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط فوق 129 دولاراً، فيما حلّقت العقود الآجلة لخام برنت لأعلى من 130 دولاراً للبرميل.
من القاع للذروة
من قاعٍ دون الصفر إلى ذروة فوق المئة بثلاثين، وكأن السوق اختصر في عامين ما قد يحتاج إليه الاقتصاد لعقد كي يفهمه.
كانت تلك القفزة أكثر من مجرد رد فعل على نقص المعروض أو عقوبات على روسيا؛ كانت تعبيراً عن هشاشة العالم حين يُهدد أمن الطاقة، وعن التحول المفاجئ من وفرة لا تجد من يشتريها، إلى ندرة لا تكفي حتى لمن يدفع أكثر.
ويبقى النفط من البئر إلى المنصة، ومن الشاحنات إلى أنابيب الغاز، يدير كل شيء، ويعيد تشكيل خرائط التحالف والصراع، فمن يملك النفط يحكم.