تحظى غرينلاند، أكبر جزيرة في العالم، بكل ما يمكنه تحفيز ترامب أو غيره للاستحواذ عليها، فمن الموقع الإستراتيجي، الذي يؤهلها لتكون درة تاج بالنسبة للأمن الأميركي، إلى وفرة المعادن، ناهيك عن تأثيرها على صعيد الجغرافيا السياسية، كلها عوامل اجتمعت وشجّعت الرئيس الأميركي المنتخب للتصريح برغبته في شراء الجزيرة أو حتى الاستحواذ عليها عسكرياً إذا لزم الأمر.

تقع غرينلاند جغرافياً داخل أميركا الشمالية، وكانت تحت سيطرة الدنمارك لمدة 300 عام تقريباً، وقد كانت الجزيرة مستعمرة حتى منتصف القرن العشرين، وظلت معزولة وفقيرة معظم هذا الوقت.

خلاصة القول؛ هذه الجزيرة تحتل موقعاً جيوسياسياً فريداً، حيث تقع بين الولايات المتحدة وأوروبا، وعاصمتها نوك وهي أقرب إلى نيويورك منها إلى العاصمة الدنماركية كوبنهاغن.

وأصبحت هذه الجزيرة في عام 1953 جزءاً من مملكة الدنمارك، فيما أمسى سكان غرينلاند مواطنين دنماركيين.

وفي عام 1979 أعطى استفتاء على الحكم الذاتي لغرينلاند السيطرة على معظم السياسات داخل الإقليم، مع احتفاظ الدنمارك بالسيطرة على الشؤون الخارجية والدفاع.

تُعد غرينلاند المنطقة الأقل اكتظاظاً بالسكان في العالم، إذ يقطنها نحو 56000 شخص فقط، معظمهم من شعب الإنويت الأصلي، علاوة على أن نحو 80% من أراضيها مغطاة بالجليد، ما يعني أن معظم الناس يعيشون على الساحل الجنوبي الغربي حول العاصمة نوك.

يعتمد اقتصاد هذه الجزيرة بشكل أساسي على صيد الأسماك، فيما تمثل الإعانات الكبيرة من الحكومة الدنماركية نحو خمس الناتج المحلي الإجمالي.

كما يمثل الصيد أكثر من 95% من الصادرات، والإعانات السنوية من الدنمارك، والتي تغطي ما يقرب من نصف الميزانية العامة.

في المجموع، تنفق الدنمارك ما يقل قليلاً عن مليار دولار سنوياً على غرينلاند.

ترامب.. مبدأ الحكاية

جدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مؤخراً، رغباته، التي كان قد عبّر عنها خلال فترته الرئاسية الأولى، في شراء جزيرة غرينلاند، واصفاً ذلك بأنه «ضرورة مطلقة».

ولكن عندما سُئل ترامب، في مؤتمر صحفي مؤخراً، عمّا إذا كان يستبعد استخدام «الضغط العسكري أو الاقتصادي» للحصول على غرينلاند أو بنما، التي أعرب أيضاً عن رغبته في امتلاكها، قائلاً «لا، لا أستطيع أن أؤكد أياً من هاتين الجزيرتين، لكن يمكنني أن أقول هذا: نحن بحاجة إليهما من أجل الأمن الاقتصادي».

ويعتقد الرئيس المنتخب أن امتلاك غرينلاند أمر حيوي لأمن الولايات المتحدة، لكن الخبراء يقولون إنه قد يتطلع أيضاً إلى جوانب أخرى من غرينلاند مثل مخزونها من الموارد الطبيعية -بما في ذلك المعادن النادرة- والتي قد تصبح أكثر سهولة في الوصول إليها مع ذوبان الجليد في المنطقة بسبب تغير المناخ.

هل من سوابق تاريخية؟

من نافل القول أن ترامب ليس أول رئيس أميركي يطرح فكرة شراء غرينلاند؛ ففي عام 1867 عندما اشترى الرئيس أندرو جونسون ألاسكا، فكّر أيضاً في شراء هذه الجزيرة الغنية.

ثم في نهاية الحرب العالمية الثانية، عرضت إدارة ترومان على الدنمارك 100 مليون دولار مقابل الجزيرة، وفقاً لوثائق نشرتها وسائل الإعلام الدنماركية لأول مرة.

لم يتحقق أي من العرضين بطبيعة الحال، ولكن بموجب معاهدة دفاع عام 1951، حصلت الولايات المتحدة على قاعدة جوية تسمى الآن قاعدة بيتوفيك الفضائية، في شمال غرب غرينلاند.. تتمركز هذه القاعدة في منتصف الطريق بين موسكو ونيويورك، وهي مجهزة بنظام تحذير صاروخي.

في عام 2009، مُنحت الجزيرة حكماً ذاتياً واسع النطاق، بما في ذلك الحق في إعلان الاستقلال عن الدنمارك من خلال استفتاء.

قال رئيس الوزراء موتي إيجيدي، الذي كثف جهوده من أجل الاستقلال، مراراً وتكراراً إن الجزيرة ليست للبيع وإن الأمر متروك لشعبها لتقرير مستقبله.

ما وراء الأمن

تتمتع الجزيرة، خلافاً لمزاياها على الصعيد الأمني أو موقعها الجيوسياسي، بثروة معدنية ونفطية وغاز طبيعي، وقد أظهر مسح أجري عام 2023، بحسب رويترز، أن 25 من 34 معدناً اعتبرتها المفوضية الأوروبية «مواد خام أساسية» تم العثور عليها في غرينلاند.

تشمل هذه المعادن: المواد المستخدمة في البطاريات مثل الجرافيت والليثيوم، وما يسمى بالعناصر الأرضية النادرة المستخدمة في المركبات الكهربائية وطواحين الهواء. وقد حظرت غرينلاند استخراج النفط والغاز الطبيعي لأسباب بيئية، وواجه تطوير قطاع التعدين فيها عقبات بسبب البيروقراطية والمعارضة من السكان الأصليين.

وتشير تقارير صحفية إلى أن ما قد يكون أكثر جاذبية لترامب هو الرواسب الغنية بالموارد الطبيعية في غرينلاند، كما قال كلاوس دودز، أستاذ الجغرافيا السياسية في رويال هولواي، جامعة لندن.

تُهيمن الصين حالياً على إنتاج المعادن النادرة العالمية وهددت بالفعل بتقييد تصدير المعادن الحيوية والتقنيات المرتبطة بها، قبل فترة ولاية ترامب الثانية.

قال خالد العوضي، مستشار الطاقة في شركة Hawk Energy، إن غرينلاند قد تكون بمثابة اللؤلؤة لمستقبل أمن الطاقة للولايات المتحدة، لا سيما أن لديها سوقاً كبيراً هو الاتحاد الأوروبي، الذي يستورد كميات كبيرة من الغاز الأميركي.

وأضاف في تصريحات لـ«CNN الاقتصادية» أن أميركا من أكبر مصدري الغاز المسال إلى أوروبا والعالم، وأكبر منتجيه كذلك، ربما من مصلحتها -تحسباً لأي مستجدات محتملة- إخفاء هذا الغاز، لافتاً إلى أن الولايات المتحدة تعرف بطبيعة الحال ماهية ثروات النفط والغاز الموجودة لدى غرينلاند، والتي قد تحتاج إلى نحو 5 سنوات لاستخراجها.

وفي السياق ذاته، لفت مستشار الطاقة، إلى أن معادن مثل الليثيوم والجرافيت موجودة كذلك لدى جزيرة جرافيت، لكن السكان الأصليين يمنعون بناء المناجم لأنها تخالف المعايير البيئية، التي لا تُوليها الولايات المتحدة كبير اهتمام.

وعلى الصعيد العسكري، أشار العوضي إلى أن أميركا تمتلك قاعدة عسكرية هناك، ولديها حرية التصرف فيها، لافتاً إلى أنها أبرمت اتفاقية عسكرية مع الدنمارك تمنحها وجوداً عسكرياً هناك.

وأكد أن اهتمام الولايات المتحدة بجزيرة غرينلاند مدفوع بأهداف اقتصادية في المقام الأول، إذ تسعى للهيمنة على أسواق الطاقة في الغاز في نصف أسواق العالم تقريباً لنحو 30 سنة قادمة.

ذوبان الجليد.. نعمة أم نقمة؟

تمنح فرص احتمالات ذوبان الجليد وارتفاع درجات الحرارة بسرعة في القطب الشمالي غرينلاند مقعداً في الصفوف الأمامية عندما يتعلق الأمر بأزمة المناخ، لكن البعض يرى أيضاً فرصاً اقتصادية مع إعادة تشكيل تغير المناخ للبلاد.

كما ارتفعت نسب الشحن في القطب الشمالي بنحو 37% على مدار العقد الماضي وحتى عام 2024 -وفقاً لمجلس القطب الشمالي- ويرجع ذلك جزئياً إلى ذوبان الجليد.

ثمة أيضاً اقتراح بأن ذوبان الجليد قد يجعل الوصول إلى الموارد الطبيعية أسهل، لكن أزمة المناخ لم تثبت بعد أنها «عامل تغيير» كبير في هذا الصدد، كما قال فيليب شتاينبرغ، أستاذ الجغرافيا في جامعة دورهام.

ماذا نتوقع؟

رفضت حكومتا الدنمارك وغرينلاند بقوة فكرة إمكانية شراء الدولة القطبية الشمالية، كما كتب رئيس وزراء غرينلاند موتي إيجيدي في منشور على فيسبوك في أواخر ديسمبر «نحن لسنا للبيع ولن نكون للبيع أبداً، يجب ألّا نخسر نضالنا المستمر من أجل الحرية».

قال كوبيك كلايست، رئيس وزراء غرينلاند السابق، إن ترامب كان يتحدث إلى المواطنين الأميركيين أكثر من سكان غرينلاند، وقال لشبكة سي إن إن «لا أرى أي شيء في المستقبل من شأنه أن يمهد الطريق للبيع، أنت لا تشتري ببساطة دولة أو شعباً».

تأتي تصريحات ترامب في الوقت الذي تحاول فيه حكومة غرينلاند التي يقودها الإنويت تكثيف مطالبها بالاستقلال عن الدنمارك، وفي خطابه بمناسبة العام الجديد، دعا إيجيدي إلى إزالة «أغلال العصر الاستعماري».

يشار إلى أن الدنمارك أعلنت، في ديسمبر كانون الأول، عن زيادة هائلة في الإنفاق العسكري على غرينلاند، ثم في بداية يناير كانون الثاني أطلقت العائلة المالكة الدنماركية شعاراً ملكياً أعيد تصميمه؛ ما زاد من بروز الدب القطبي الذي يرمز إلى غرينلاند.

وقال وزير الخارجية الدنماركي لارس لوكي راسموسن «نحن ندرك تماماً أن غرينلاند لديها طموحاتها الخاصة.. إذا تحققت فستصبح غرينلاند مستقلة، وإن لم يكن لديها طموح لتصبح دولة فيدرالية في الولايات المتحدة»، وفقاً لرويترز.

وقال وزير الخارجية أيضاً إن الدنمارك «منفتحة على الحوار مع الأميركيين حول كيفية تعاوننا بشكل أوثق مما نفعل لضمان تحقيق الطموحات الأميركية».

كانت غرينلاند تتطلع إلى تعزيز استقلالها من خلال تنويع اقتصادها بعيداً عن الصيد؛ افتتحت مطاراً جديداً في نوك في نوفمبر كجزء من خطط لزيادة السياحة، لكنها لا تزال تعتمد على منحة سنوية تبلغ نحو 500 مليون دولار من الدنمارك، والتي أثبتت أنها نقطة خلاف كبيرة في الاستقلال.

في الوقت الحالي، لا يزال من غير الواضح إلى أي مدى سيسعى ترامب لتحقيق رغبته المعلنة في الاستحواذ على غرينلاند بمجرد توليه منصبه، فيما يقول بعض المحللين إن أحداً لا يعرف إذا كان مجرد استعراض للشجاعة، أو تهديداً بالحصول على شيء آخر، أو شيئاً يريد القيام به بالفعل.