عندما قام مدير المسرح البريطاني ريتشارد دي أويلي كارت برحلته إلى الولايات المتحدة قبل أكثر من قرن، أعجب بالفنادق الأميركية الجديدة لدرجة أنه قرر العودة إلى وطنه وافتتاح فندق سافوي في عام 1889، الذي يعد أول فندق فاخر تم بناؤه خصيصاً في بريطانيا، وكان من الضروري أن يحتوي الفندق على مجموعة من الأطعمة والمشروبات الفاخرة، وهنا جاء دور البار الأميركي الذي صُمم لجذب الزوار الأميركيين، ونجح على مر السنين في استقطاب شخصيات مرموقة مثل إرنست همنغواي ومارلين مونرو.
في الوقت الحاضر، ومع تزايد جوائز الطهي والكتب الإرشادية والبرامج التلفزيونية، أصبح الاستمتاع بالمأكولات المحلية جزءاً أساسياً من تجربة السفر، ومع ذلك تبقى الرغبة في تناول الأطعمة المألوفة أحد المظاهر التي يتشاركها معظم المسافرين، وهذا يعود لأسباب عميقة تتعلق بالراحة والشعور بالانتماء.
الأطعمة المألوفة كوسيلة للراحة
يقول أندريا دي كيارا، مدير بار الفندق الشهير الآن، «لقد تم تصميم فندق سافوي لجذب المسافرين الأميركيين المميزين، ويستمر البار الأميركي في جذب حشود من مختلف أنحاء العالم». لذلك، ليس من المستغرب أن الأماكن التي تحتل مكانة عالية في مشهد السفر تستفيد من الرغبة في تناول الأطعمة المألوفة، سواء بالنسبة للزوار المحليين أو السياح.
وفقاً لتقرير من شركة Future Market Insights، من المتوقع أن تصل قيمة سوق السياحة الطهوية إلى أكثر من 1.1 تريليون دولار في عام 2024، حيث أفاد أكثر من 34% من السياح في استطلاع عام 2022 بأنهم اختاروا وجهات مستوحاة من المأكولات التي يحبونها، ومن المتوقع أن تستمر هذه الأرقام في الارتفاع، ما يعكس اهتمام السياح بالأطعمة المألوفة، ما يؤدي في بعض الأحيان إلى تجنب الأطباق المحلية.
رهاب الطعام والتجارب الثقافية
على الرغم من أن هذا التوجه قد يبدو مفاجئاً، فإن هناك عدة عوامل تؤثر على اختيارات السياح الغذائية، تشير دراسة أجراها أساتذة في الولايات المتحدة إلى أن المعرفة الثقافية وعوامل التحفيز وسمات الشخصية تلعب دوراً أكبر في قرارات السياح بشأن الطعام مقارنة بالتكلفة أو الراحة، يقول أنجيل جونزاليس، أحد المشاركين في الدراسة، «المسافرون مدفوعون أكثر بالراحة والأمان».
ومع ذلك، قد تكون هذه الظاهرة أكثر وضوحاً بين السياح من خلفيات معينة، حيث يميل الأميركيون من أصل إسباني إلى تجربة الأطعمة المحلية أكثر من غيرهم، ويشير جونزاليس إلى أن هذا قد يرتبط بمعرفة أوسع بتجارب الطعام المتنوعة.
الغريزة الإنسانية في اختيار الطعام
يشير جودسون بروير، عالم الأعصاب، إلى وجود عمليتين رئيسيتين في الدماغ تتعلقان باختيارات الطعام، يقول إن السفر هو مقايضة بين الإثارة في اكتشاف أشياء جديدة وراحة الأطعمة المعروفة، في مواقف معينة تتخذ قشرة الدماغ المسؤولة عن اتخاذ القرار خيارات تعتمد على الأمان والراحة، ما يؤدي إلى تفضيل الأطعمة المألوفة.
ويضيف بروير، «أدمغتنا لا تحب عدم اليقين، والسفر إلى أماكن جديدة يمكن أن يكون مخيفاً»، هذه المخاوف يمكن أن تؤدي إلى مشاعر القلق، ما يدفعنا إلى اختيار الأطعمة التي نشعر بالراحة معها، حتى في الأراضي الغريبة.
الطعام وذاتيّتنا
عندما نربط الطعام بمشاعرنا، يصبح تناول الأطعمة المألوفة وسيلة للتعامل مع التوتر، تقول بروير: «إن الأطعمة المألوفة توفر الراحة النفسية، ما يجعلنا نشعر بالأمان في بيئة جديدة».
إن استدعاء طعم الوطن وسط التحديات الثقافية قد يكون ما يفسر تفضيل البعض مطاعم الوجبات السريعة أو الأطعمة التقليدية أثناء السفر.
لذلك، نحن جميعاً نسعى للحصول على طعم الألفة في أرض أجنبية، وهذه الرغبة ليست مجرد مسألة ذوق، بل هي احتياج نفسي عميق. لذا، بدلاً من الاستهزاء بأولئك الذين يحملون مشروباتهم المفضلة أو يختارون الأطعمة المألوفة، يجب علينا أن نفهم أن هذه الاختيارات هي تعبير عن رغبتنا في الراحة والانتماء، حتى في أماكن جديدة.
إن نشوة السفر لا تعني بالضرورة التخلي عن الأطعمة التي تعودنا عليها، بل قد تكون رحلة اكتشاف الذات من خلال تلك النكهات التي تذكرنا بالوطن. في النهاية، لا يوجد ما هو أفضل من تناول طعام يلامس قلوبنا ويعيدنا إلى ذكريات الوطن، مهما كانت وجهتنا.
(ماجي هيوفو وونغ CNN)