«قُيدت ضد مجهول».. صانع السوق يتنصل من جريمته ولا عزاء للمضاربين

«قُيدت ضد مجهول».. صانع السوق يتنصل من جريمته ولا عزاء للمضاربين

في صمت الانتظار.. حين يترقب الجميع صوت النبأ العظيم، تتجه الأنظار إلى الشاشات، وتُحبس الأنفاس في انتظار لحظة الحقيقة.

الحقيقة الخبر.. الحقيقة نبأ كارثي.. الحقيقة إعلان سار.. لا يهم.. رد الفعل اللحظي الأولي أهم.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

قيدت ضد مجهول.. نعم هي جريمة مكتملة الأركان.. فنظريات الاقتصاد تقول يميناً.. فيما سار صانع السوق يساراً.

مذبحة حقيقية للثيران وكل من اشترى لأن المنطق يقول شراء.. تحليل الخبر يقول شراء.. صانع السوق يبيع.. هل لأحد عليه من سلطان؟

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

مذبحة حقيقية للدببة وكل من باع لأن المنطق يقول بيع. تحليل الخبر يقول بيع.. صانع السوق يشتري.. هل لأحد عليه من سلطان؟

المضارب الذي يثق في المنطق فقط، هو كمن يدخل ساحة معركة دون درع، أما صانع السوق، فهو لا يحارب بالأرقام، بل بالإلهاء والتوقيت، كل جريمة تُقيد ضد مجهول، ولكن في الحقيقة الفاعل معروف.

الفاعل اسمه لا يُذكر في بيانات البنك المركزي، ولا يُكتب في نشرات الأخبار، ولكنه دائم الحضور في شارت الساعة الأولى:

*إنه صانع السوق.. القاتل الذي لا يترك أثراً.

إعلان سعر الفائدة الأميركي، أو أرقام التضخم التي تهزّ الأسواق العالمية، ها هو جيروم باول رئيس الاحتياطي الفيدرالي قد دخل قاعة المؤتمر الصحفي.. الآن سيعلن القرار.. بعدها بنصف ساعة سيبدأ الرجل كلمته معقباً.

لحظة فارقة يفترض فيها أن يسود منطق الاقتصاد، أن ينتصر التحليل، أن تنطق الأرقام بما توحي به معانيها، ولكن في دهاليز السوق ثمة عقل خفيّ، يمكر ولا يُرى، يبتسم في الظل، ويستعد لارتكاب جريمة كاملة.

صانع السوق، هذا الكائن الشبحي الذي لا يُذكر في نشرات الأخبار، ولا تلاحقه العناوين، يخرج من عزلته بمجرد صدور الخبر.

ما القصة؟ القصة كبيرة لأبعد حد.. فالآن تتجه التوقعات نحو ارتفاع الدولار؟ إذاً بحسب المنطق، ستتراجع الأسهم، ولكن ما الذي يحدث فعلاً؟ تنهض المؤشرات وكأنها تستقبل عيداً، يُقذف بالمضاربين في الهواء، يهرولون خلف الرؤية الواضحة التي طالما قرؤوها في كتب الاقتصاد، ويظنون أن السوق قد صدّق أخيراً منطقه.

ولكن ما إن تمرّ الساعة الأولى، حتى يبدأ نزيف الدم وتبخر الأرصدة.

بيانات التضخم الأميركي

يأتي تقرير التضخم الشهري، وتكون القراءة «أقل من المتوقع»، أي أن الضغوط السعرية تراجعت، ما يُفترض أن يقلل من فرص رفع أسعار الفائدة، وبهذا المنطق ينبغي أن ترتفع الأسهم وتضعف قوة الدولار.

لكن ما يحدث أحياناً يكون عكس ذلك تماماً، ترتفع عوائد السندات، ويهوي مؤشر «ناسداك»، ويصعد الدولار بقوة، يصفع السوق كل من راهن على التحليل المنطقي، وكأن التفسير هو: «هذا تراجع مؤقت، الفيدرالي لن يغيّر مساره»، أو ربما: «أرقام التضخم الجوهرية لا تزال مرتفعة».

تمرّ ساعة أو ساعتان، ثم تنقلب الأمور، تهبط عوائد السندات فجأة، وتعود الأسهم للارتفاع، والدولار للتراجع، ويُعاد توازن السوق إلى نصابه.. ولكن بعد أن يكون صانع السوق قد اشترى بثمن بخس من المذعورين، وباع للمُتفائلين بسرعة.

قرار الفائدة من الاحتياطي الفيدرالي

يعلن الفيدرالي الأميركي تثبيت سعر الفائدة، ويصدر بيانه بنبرة أقل تشدداً من المتوقع، التحليل الفوري؟ الأسواق ستنتعش، والسيولة ستُضخ مجدداً ولكن في الدقيقة الأولى ترتفع أسعار الذهب والأسهم، ثم —فجأة وبلا مقدمات— تبدأ موجة بيع عنيفة تضرب كل الأصول، وكأن الأسواق أصيبت بالهستيريا.

وبعد نصف ساعة، في المؤتمر الصحفي يقول رئيس الفيدرالي إنهم يراقبون البيانات ولن يتسرعوا في خفض الفائدة، تهدأ السوق، تُستوعب الرسالة، وتبدأ رحلة الصعود الحقيقي، لكن المضاربين الذين دخلوا في اللحظات الأولى وفق التحليل البسيط، يكونون قد خرجوا بالفعل بخسائر فادحة، ظنّاً منهم أن السوق قد خانهم.

تقرير الوظائف الأميركي

يصدر التقرير، وجاءت الأرقام أقوى من المتوقع، الاقتصاد يخلق وظائف بوتيرة مرتفعة، والبطالة تنخفض،التفسير المنطقي؟ الفيدرالي قد يُبقي على سياسة التشديد، وبالتالي يجب أن يتراجع الذهب ويقوى الدولار، وتنخفض الأسهم.

لكن السوق، بخبث مقصود، يفعل العكس أولاً؛ يصعد الذهب والأسهم، ويضعف الدولار، وكأن الاقتصاد القوي بات دليلاً على التعافي لا على استمرار التشديد، يدفع المضاربون أموالهم بثقة، فقط ليُفاجؤوا في الساعة التالية بانعكاس شرس، يُعيد الأمور إلى مسارها «المنطقي» الذي توقّعوه مسبقاً.

وهكذا، لا يتأخر صانع السوق في العودة إلى المنطق، ولكن بعد أن يكون قد ملأ جيوبه من جيوب المندهشين.

صانع السوق لا يتلاعب فقط بالأرقام، بل بالمشاعر، والتوقيت، وردود الفعل اللحظية، هو يعرف أن المضاربين يتحركون بسرعة، وأن الخوف والجشع أسرع من أي تحليل، فيستغل لحظة الصدمة ليصنع ما يسمى بـ«الفخّ السعري» (Price Trap)، إنها ارتفاعات زائفة وانهيارات وهمية يستدرج بها أوامر البيع والشراء، ثم يُعيد السوق إلى المنطق بعد أن يكون قد جمع أكبر قدر من السيولة.