يعيش العالم في هذه الأيام حالة من التوتر والخلاف الاقتصادي، حرب أوكرانيا المتواصلة، والصراع التجاري المحتدم بين الولايات المتحدة والصين، إلى جانب عقوبات أميركية أحادية الجانب، أدت إلى هز ثقة المستثمرين في النظام المالي العالمي.
تحت هذا المناخ المتقلب، يبرز اليورو مرشحاً جديداً على مسرح العملات الاحتياطية، السؤال الذي يتردد في أروقة الأسواق هل يمكن للعملة الأوروبية الموحدة أن تتحول إلى ما يشبه «الدولار الحقيقي» القادم؟
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
الصعود التاريخي للدولار بعد الحرب العالمية الثانية
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 اتجه الاقتصاد العالمي نحو بناء نظام نقدي جديد، في مؤتمر بريتون وودز عام 1944 تم ربط الذهب بالدولار الأميركي بسعر ثابت، أي نحو 35 دولاراً للأونصة، وألزم الحلفاء بقيّة العملات بالربط غير المباشر بالدولار، شكّل هذا الأساس لانطلاق الدولار كعملة احتياطية أولى عالمياً.
ومنذ ذلك الحين عززت الولايات المتحدة قوة اقتصادها ونظامها المالي العميق، ما جعل الدولار مهيمناً في التجارة والتمويل العالمي، فعلى سبيل المثال بلغت حصة الدولار في احتياطيات البنوك المركزية العالمية نحو 70 في المئة بنهاية عام 2000، في وقت كان اليورو لم يوجد بعد.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
التحديات الراهنة أمام الدولار الأميركي
لم يعد الدولار بمنأى عن التحديات الدولية، تدرك الأسواق اليوم أن استخدامه كأداة ضغط سياسي يسبب ارتدادات، ما يزيد المخاوف حول استدامة هيمنته.
ففي السنوات الأخيرة فرضت واشنطن عقوبات واسعة على دول وشركات استراتيجية، ما جعل الكثير من الشركاء التجاريين يبحثون عن بدائل.
كما أظهرت بيانات السوق أن ثقة المستثمرين بالدولار تضعف؛ فقد وصف محللون أزمة الثقة بالدولار بأنها «حاضرة بقوّة» في السوق حالياً.
بالمقابل، بدأ بعض الشركاء التجاريين في إصدار سندات مرفقة بعملاتهم المحلية، فمثلاً شهدت سندات «الباندا» الصينية صعوداً لافتاً، حيث جمعت جهات أجنبية نحو 15.3 مليار دولار من السندات المقومة باليوان عام 2023، ما يعكس اتجاهاً نحو تنويع الاحتياطيات بعيداً عن الدولار.
وفي أبريل نيسان 2025 بلغ سعر الصرف 88 سنتاً يورو مقابل الدولار، أي نحو 1.14 دولار لكل يورو، وهو أقل مستوى منذ بدء الحرب في أوكرانيا، ما يشير إلى ضعف الطلب على الورقة الخضراء مع تصاعد مخاوف الركود وارتفاع العجز التجاري الأميركي.
موقع اليورو في المعادلة العالمية
يحتل اليورو اليوم المرتبة الثانية عالمياً بوصفه عملة احتياطية، لكنه بعيد عن اللحاق بالدولار، فقد بلغت حصته نحو 19.8 في المئة من احتياطيات العملات الأجنبية لدى البنوك المركزية بنهاية عام 2024، بينما تجاوز نصيب الدولار 57.8 في المئة.
وفي تجارة الاتحاد الأوروبي مع العالم الخارجي لعام 2023، شكّل اليورو 46 في المئة من إجمالي فواتير التجارة الخارجية مقابل 42 في المئة للدولار.
وعلى سبيل المثال، شكّل اليورو 52 في المئة من فواتير صادرات دول الاتحاد في 2023 مقابل 32 في المئة فقط للواردات.
هذه الأرقام تؤكد أن اليورو هو الخيار الثاني بوضوح، لكنه يشهد تأرجحاً إيجابياً، إذ بدأ عالمياً يحجز لنفسه نصيباً أكبر تدريجياً من التجارة والاحتياطيات منذ العقد الماضي.
كما يؤدي اليورو دوراً بارزاً في تسويات الطاقة في بعض العقود الإقليمية، رغم أن التداولات النفطية العالمية الكبرى ما زالت قائمة بالدولار في الغالب.
تشير بيانات صندوق النقد الدولي إلى استمرار هيمنة الدولار، ففي الربع الرابع من 2024، مثلت احتياطيات الدولار نحو 58 في المئة من إجمالي الاحتياطيات الدولية، مقابل نحو 20 في المئة فقط لليورو.
تعكس هذه النسب محدودية انتشار اليورو كعملة احتياطية مقارنة بمنافسيه، رغم أنه يحتل المركز الثاني بفارق كبير عن العملات الأخرى.
ومع ذلك، يجب الانتباه إلى أن حصة اليورو تظل أعلى قليلاً مما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، ما يدل على اتجاه بطيء نحو تنويع الاحتياطيات على المدى المتوسط.
على صعيد السياسة النقدية، تباينت الاتجاهات بين ضفتي الأطلسي في 2025. فقد خفّض البنك المركزي الأوروبي سعر الفائدة الأساسي إلى 2.25 في المئة لمواجهة تباطؤ النمو التضخمي في منطقة اليورو، في الوقت الذي ظل فيه الاحتياطي الفيدرالي الأميركي محافظاً على معدل أعلى مدعوماً بانتعاش نسبي في الاقتصاد الأميركي.
وكان لذلك أثر مزدوج، فقد دعم الفارق الكبير في الفوائد الدولار قصير الأجل، بينما اعتبر البعض أن خفض الفائدة الأوروبية يخفف قليلاً من قوة اليورو العائد قيادياً لأسواق الدين.
معوقات اليورو
على الرغم من قوة الاقتصاد الأوروبي، يعاني اليورو من معوّقات هيكلية كبيرة، فالاتحاد الأوروبي تجمع سياسي هشّ لا يضاهي إطار دولة موحدة.
فقد أشار بعض المحللين إلى أن «الاتحاد الأوروبي تكتل اقتصادي وليس كياناً سياسياً»؛ فلا يوجد كيان تشريعي أو مالي مركزي يقف خلف اليورو على غرار وزارة الخزانة الأميركية.
غياب موازنة عامة مشتركة وسلطة مالية مركزية يعني اعتماد كل دولة عضو على سياساتها الضريبية والإنفاقية الخاصة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن التفاوت الاقتصادي بين الأعضاء كبير، هناك تفاوت في معدلات النمو ومعدلات الدين بين دول شمال أوروبا القوية ودول جنوبها المثقلة بالديون.
هذا النقص في الوحدة السياسية والمالية يقيد حركات اليورو ويحدّ من درجة ثقة العالم في استقراره على المدى البعيد.
سوق السندات الخضراء.. الساحة الوحيدة لتفوّق اليورو
رغم أن الدولار يهيمن على 90 في المئة من معاملات الصرف الأجنبي ويحتفظ بـ58 في المئة من احتياطيات النقد العالمية، فإن هناك ساحة مالية واحدة يتفوق فيها اليورو، وهي سوق السندات الخضراء.
ففي وقت يتأثر فيه الزخم البيئي في الولايات المتحدة بالتحولات السياسية، يواصل الاتحاد الأوروبي تعزيز موقع عملته كمرجع عالمي في أدوات التمويل المستدام.
بحسب التقديرات، سيشهد عام 2025 إصداراً قياسياً جديداً من السندات الخضراء بقيمة تصل إلى 660 مليار دولار، أي بزيادة تقارب 8 في المئة مقارنة بالعام الماضي.
وتُعد منطقة اليورو المحرك الرئيسي لهذا النمو، إذ شكّلت إصداراتها نحو 46 في المئة من السوق العالمية في 2024، مقابل 28 في المئة فقط للدولار الأميركي، رغم أن القيمة الإجمالية لهذا السوق لا تزال متواضعة نسبياً مقارنة بباقي أدوات الدين، إذ تمثل السندات الخضراء 2.5 في المئة فقط من إجمالي السندات القائمة، أي ما يعادل 2.9 تريليون دولار.
انطلق هذا السوق بشكل فعلي بعد توقيع اتفاق باريس للمناخ في 2015، ثم رسّخت مبادئه الرابطة الدولية لسوق رأس المال (ICMA)، ليشهد منذ ذلك الحين نمواً متسارعاً مدفوعاً بإقبال من الشركات والجهات السيادية في أوروبا، بينما تأتي الولايات المتحدة والصين في مراكز متأخرة نسبياً.
أثارت التحولات الجيوسياسية، مثل الحرب في أوكرانيا، سباق التسلّح، وعودة دونالد ترامب إلى الساحة، مخاوف بشأن مستقبل التمويل المستدام، خصوصاً في ظل الهجمات السياسية المتزايدة على مفاهيم الحوكمة البيئية والاجتماعية.
غير أن هذه المخاوف تبدو مبالغاً فيها، إذ إن السوق يواصل التوسع استجابة لطلب حقيقي، لا لأجندات حكومية فقط.
حتى مع محاولات الإدارة الأميركية للضغط على مديري الأصول لتقليص التزاماتهم البيئية، لم يتراجع كبار المستثمرين، بل واصلوا تعزيز منتجاتهم المستدامة خارج أميركا.
في أوروبا، أصبحت معايير البيئية والاجتماعية والحوكمة ESG جزءاً من الممارسات اليومية، مدعومة بإطار تنظيمي أكثر وضوحاً، مثل «المعيار الأوروبي للسندات الخضراء» (EuGBS) الذي عزز ثقة المستثمرين وزاد من شفافيتها.
الدوافع لا تقتصر على الرغبة في تحسين السمعة أو التوافق مع التنظيمات، بل تتعداها إلى النتائج الفعلية، الشركات التي تصدر سندات خضراء تقلل انبعاثاتها الكربونية بنسبة تصل إلى 21 في المئة بعد عام واحد، وخاصة في القطاعات ذات البصمة البيئية العالية، وفقاً لدراسة حديثة لبنك التسويات الدولية، ويُعد هذا الإنجاز مؤشراً ملموساً على الدور الفعلي لهذه السندات في دعم أهداف إزالة الكربون.
حتى وكالات التصنيف الائتماني بدأت تأخذ في الحسبان مسارات تقليل الانبعاثات عند تقييم ديون الدول، ما يمنح مصدري السندات الخضراء الأفضلية في تقليل المخاطر المرتبطة بانتقال غير منظم للطاقة، وبالتالي تحسين تصنيفهم الائتماني.
في الوقت الذي يشهد فيه الدولار تراجعاً نسبياً في أدوات التمويل المستدام، يبدو أن اليورو في طريقه لترسيخ مكانته كعملة خضراء بامتياز.
وكما أسهمت البترو- دولارات أو الدولارات النفطية petrodollars في ترسيخ الهيمنة العالمية للدولار في سبعينيات القرن الماضي، قد تكون سندات الطاقة النظيفة اليوم هي ما يمنح العملة الأوروبية دفعة نحو الريادة المالية البيئية.
الخلاصة والتوقعات المستقبلية
تؤكد جميع المؤشرات الحالية أن الدولار سيظل المهيمن المطلق في الاقتصاد العالمي خلال السنوات القريبة المقبلة، بينما سيُعتبر اليورو البديل الأول منه.
تغيير هذا الواقع يتطلب تحولات جذرية داخل أوروبا: مزيداً من الاندماج السياسي والإصلاحات المالية التي تعزّز عمق سوق اليورو وسيولة أوراقه.
في المدى المنظور، لا تزال الأغلبية العظمى من الدول والتجار تعتبر الدولار الخيار الأول في المعاملات الدولية، مع استخدام اليورو كثاني احتياط عالمي.
ومع ذلك، فإن الاهتمام المتزايد بالعملة الأوروبية وتوجه بعض الاقتصادات الكبرى نحو التنويع يضع اليورو في الصورة كخيار استراتيجي مهم، حتى لو لم يصل إلى عرش الدولار بسهولة أو في زمن قصير.
أي تطوّر دراماتيكي في الوضع الحالي سيتوقف على قدرة أوروبا على تذليل معوقات التكامل الداخلي وتعزيز ثقة العالم بعملة اليورو.