افتتحت دولة مالي في يونيو حزيران 2025 مصفاة ذهب جديدة في العاصمة باماكو بالشراكة مع شركة «يادران» الروسية، ستحمل الشركة المشتركة الجديدة اسم شركة سوروما المساهمة Soroma-SA، وتملك الحكومة المالية 62 في المئة من رأس مالها مقابل 38 في المئة لـ«يادران».
ووفقاً لتصريحات المسؤولين الماليين، ستبلغ طاقة معالجة المصفاة نحو 200 طن من الذهب سنوياً، أي ما يقارب أربعة أضعاف الإنتاج الحالي الذي يقدر بنحو 50 طناً.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });
تعكس هذه المبادرة سعي الحكومة المالية لاسترجاع قيمة ذهبها محلياً بدلاً من تصديره خاماً إلى الخارج، وبالتالي زيادة عائدات الدولة من هذا القطاع الحيوي.
تحولات في سياسات التعدين المالي
جاء تدشين المصفاة ضمن حزمة من الإصلاحات الجديدة في سياسات التعدين بمالي، ففي عام 2023 صدّقت السلطات المالية قانوناً معدّلاً لقطاع التعدين، سمح للدولة بزيادة حصتها في امتيازات الشركات وإلغاء الإعفاءات الضريبية أثناء مرحلة الاستغلال.
googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });
وأعلن الرئيس المؤقت، الجنرال أسيمي غويتا، أن جميع شركات التعدين ستضطر لاحقاً إلى تكرير ذهبها داخل البلاد بموجب هذا القانون.
تصب هذه الإجراءات في إطار تعزيز السيادة الاقتصادية، إذ كان نحو 70 طناً من الذهب المالي يُصدر سنوياً إلى الخارج، للولايات المتحدة والإمارات وسويسرا على وجه الخصوص، ما أفقد البلاد مليارات الدولارات نتيجة تهريب الخام وغياب المرافق المحلية المعتمدة للتكرير.
بالتالي، يأمل صانعو القرار في أن يساهم المشروع الروسي- المالي للمصفاة في وقف هذه الخسائر وزيادة حصيلة الخزينة من الذهب.
إنتاج الذهب المالي.. الإحصائيات والاتجاهات
تُظهر أحدث البيانات أنّ إنتاج مالي من الذهب بلغ مستوى قياسياً؛ إذ أظهرت إحصاءات هيئة المساحة الجيولوجية الأميركية (USGS) أن الإنتاج السنوي وصل إلى نحو 70 طناً في 2024، مقابل 67 طناً في 2023.
وبحسب تقارير مستقلة، يعتبر الإنتاج المالي حالياً ثالث أعلى معدل في إفريقيا، بعد غانا وجنوب إفريقيا، قُدّر بقرابة 70 طنّاً سنوياً.
وقد تضاعف الإنتاج المالي تقريباً خلال العقد الماضي مع ارتفاع أسعار الذهب العالمية، ومع أن أرقام الحكومة المالية في 2023 كانت 50- 66 طناً، حسب بعض المصادر، إلا أن الاتجاه العام يشير إلى نمو مطرد.
ويسهم هذا الإنتاج الوفير في كون الذهب الركيزة الأساسية لصادرات مالي، إذ يمثل نحو 94 في المئة من عائدات الصادرات الخارجية للبلاد.
في المقابل، تراجعت أسعار الذهب عالمياً بداية العام الحالي بسبب احتمالات رفع الفائدة، لكن التوترات الجيوسياسية الجديدة سرعان ما أعادت الدفع بأسعاره إلى مستويات قياسية، فتصعيد القتال بين إسرائيل وإيران في يونيو حزيران 2025 عزز طلب المستثمرين على الذهب كملاذ آمن.
وبلغ سعر الأونصة نحو 3390 دولاراً بحلول منتصف يونيو حزيران، بعد أن كسر أرقاماً قياسية جديدة، ويُتوقع أن تحافظ حالة عدم اليقين على دعم أسعار الذهب، خصوصاً مع توقعات توسّع النزاع قبل أي تهدئة.
في ظل هذه الأجواء، تصبح خطوة مالي الروسية مفيدة، إذ ستجعل مالي جزءاً من سلسلة توريد ذهب بطلبيات مرتفعة، وقد تسهم إضافة المعروض المحلي من الذهب المكرر في تلطيف ضغوط الأسعار على المدى المتوسط.
تنامي الوجود الروسي في إفريقيا
تأتي شراكة مالي مع روسيا ضمن توسع ملحوظ لنفوذ موسكو الاقتصادي في إفريقيا، فقد دخلت شركات روسية في السنوات الأخيرة مجال تعدين المعادن الثمينة والنادرة في عدة دول إفريقية، مستغلة العقوبات الغربية لتوسيع مصادرها.
على سبيل المثال، أُعلن عن استثمار مشترك روسي - زيمبابوي بقيمة 400 مليون دولار لتنمية منجم للبلاتين والمعادن النفيسة.
وفي إطار هذا الاهتمام، أصبح الذهب مورداً استراتيجياً بالنسبة إلى روسيا؛ إذ يشتري الروس كميات قياسية من الذهب احتياطياً، بلغت مشتريات المستهلكين نحو 75.6 طن في 2024، بزيادة 6 في المئة على العام السابق.
كذلك، زادت علاقات التجارة بين
روسيا والدول الإفريقية بوتيرة سريعة، فقد أعلنت بيانات روسية رسمية أن حجم التجارة ارتفع بنحو 37 في المئة عام 2023 إلى نحو 24.5 مليار دولار.
ويوضح هذا السياق الاقتصادي الواسع أبعاداً استراتيجية للمشروع الروسي - المالي، فإفريقيا تمثل مصدراً جديداً للذهب والسماسرة الجدد له، ويعزز تعميق الشراكات معها قدرة روسيا على تخفيف أثر العقوبات عبر تأمين تدفقات ذهبية مباشرة.
دور أوكرانيا وروسيا في سباق الموارد الاستراتيجية
بينما تتجه مالي نحو تعظيم سيادتها على مواردها الذهبية عبر مصفاة «سوروما» بالشراكة مع روسيا، فإن هذه الخطوة لا تأتي بمعزل عن تحولات أوسع في خريطة المعادن العالمية.
فقد شهدنا في 2024 توقيع الولايات المتحدة اتفاقيات استراتيجية مع دول إفريقية –أبرزها زامبيا والكونغو الديمقراطية– لتأمين سلسلة توريد المعادن الحيوية، كالذهب والكوبالت والنيكل، ضمن خطة مضادة للنفوذ الصيني والروسي في القارة.
وعلى الجانب الآخر، يعيد التعاون الروسي المالي طرح تساؤلات حول موقع إفريقيا في صراع المعادن العالمي، خصوصاً في ظل الحرب الروسية الأوكرانية، التي أدت إلى تعطيل الإمدادات من معادن حيوية من أوكرانيا مثل التيتانيوم والحديد.
وبالتالي، لم تعد مالي مجرد مُصدِّر للذهب الخام، بل لاعباً في شبكة مصالح دولية تتقاطع فيها خطوط الجغرافيا مع السياسة والمعادن النادرة.
تداعيات التوتر الإيراني – الإسرائيلي
على الصعيد العالمي، ينعكس التصعيد العسكري في الشرق الأوسط بشكل مباشر على أسواق المعادن الثمينة، إذ رافق القتال بين إيران وإسرائيل صعود ملحوظ في
أسعار الذهب والفضة، نتيجة زيادة الطلب على الملاذات الآمنة.
وتركّزت الأنظار على الذهب باعتباره احتياطياً نقدياً مهماً، فحتى البنوك المركزية في المنطقة تنظر بجدية نحو تعزيز احتياطياتها من المعدن الأصفر على خلفية هذه الاضطرابات.
علاوةً على ذلك، ينعكس الصراع على العلاقة بين القوى الإقليمية، فروسيا، التي دعمت إيران ضمنياً في الصراع، قد تستفيد من توثيق التنسيق الاقتصادي مع حلفائها في الشرق الأوسط، بينما تميل دول الخليج وأوروبا إلى البحث عن خيارات مستدامة للمعادن الثمينة بعيداً عن شبكات التداول التقليدية.
وهذا يجعل مصفاة الذهب في مالي ليست مجرد صفقة ثنائية، بل عنصراً في خريطة عالمية تبحث فيها الدول الكبرى عن مصادر مستقلة ومتنوعة للسلع الاستراتيجية في ظل الاضطرابات السياسية والدبلوماسية.
بشكل عام، يُعَدّ هذا التعاون المالي - الروسي خطوة استراتيجية على عدة مستويات، فهو يعكس رغبة مالي في استعادة عوائد الذهب بالكامل وتحقيق سيادة اقتصادية أكبر على مواردها الطبيعية، وفي الوقت نفسه يمنح روسيا مزيداً من النفوذ والموارد الثمينة في منطقة شديدة الأهمية.