عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ليعيد للأذهان سنوات من الإثارة والصخب عاشت أسواق المال تحت وطأتها في ولايته الأولى، ومع عودته تأتي ملفات اقتصادية معقدة وغير واضحة المعالم، تجعل الاحتياطي الفيدرالي الأميركي يقف على أرض متحركة، متسائلاً عن المستقبل القريب الذي سيحمله هذا العهد الجديد.
ترامب، المعروف بنهجه الصدامي والمليء بالمفاجآت، وضع أسواق المال في حالة ترقب، تصريحاته بشأن الرسوم الجمركية، التي قد تطول الصين والاتحاد الأوروبي وكندا والمكسيك، لم تكن سوى البداية، الحديث عن رسوم جمركية بنسبة 25% على واردات المكسيك وكندا و10% على الواردات الصينية بدا كأنه "تحذير مبطن" أكثر من كونه خطة محكمة، ولكن ما يثير الدهشة هو أنه رغم التصعيد الواضح، يتم الأمر بوتيرة تدريجية، تُظهر إدراكاً بأن رفع الرسوم بشكل مفاجئ قد يؤدي إلى ارتفاع التضخم بشكل مقلق.
هذه الخطوة المدروسة تمنح الأسواق بعض الراحة، لكنها تُلقي بكرة النار في ملعب الاحتياطي الفيدرالي، الذي يجد نفسه مضطراً لتقييم أثر هذه القرارات على التضخم والقوة الشرائية للمواطن الأميركي، هل ستكون هذه الزيادة التدريجية كافية لتجنب دخول الاقتصاد في حالة ركود؟ أم أن ترامب، المعروف بنزعته للمفاجآت، سيقرر في أي لحظة رفع الرسوم بشكل أكبر، ليضع الاحتياطي الفيدرالي أمام واقع جديد؟
وفي الوقت ذاته، يحمل ترامب أجندة اقتصادية تحفيزية تهدف إلى إنعاش الاقتصاد الأميركي من خلال الإنفاق الحكومي على مشاريع البنية التحتية، هذه المشاريع، التي تُعد جزءاً من وعوده الانتخابية، ما زالت ضبابية المعالم، لم يُعلن عن حجم الإنفاق المتوقع، ولا نسبة مشاركة القطاع الخاص، ما يجعل الفيدرالي في حالة انتظار وترقب، حيث يعتمد تقييمه لمستقبل الاقتصاد على أرقام واضحة لم تُقدم بعد.
وعلى الجانب الآخر من هذه الأجندة، يلوح ترامب بخفض الضرائب على الشركات إلى 15%، بعدما خفضها سابقاً إلى 21%، خطوة كهذه رغم جاذبيتها الاقتصادية، تُهدد بزيادة العجز الفيدرالي بما يقارب 4.6 تريليون دولار خلال العقد المقبل، وفقاً لتقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس، وهذه التناقضات تجعل الاحتياطي الفيدرالي في موقف حرج؛ فهو مطالب بالحفاظ على استقرار الاقتصاد، بينما تلوح في الأفق سياسات مالية قد تؤدي إلى زيادات كبيرة في الإنفاق الحكومي، ما يضع ضغوطاً إضافية على السياسة النقدية.
ومع ذلك، لا يتوقف ترامب عند هذا الحد، فقد أعلن حالة الطوارئ الوطنية في مجال الطاقة، داعياً إلى زيادة إنتاج النفط والغاز، وبينما تبدو هذه الخطوة واعدة، فإن أثرها الحقيقي على التضخم وأسعار الطاقة لن يظهر قبل سنوات، هذا يعني أن الاحتياطي الفيدرالي، الذي يتعامل مع سياسات اقتصادية قصيرة الأمد، قد يجد نفسه في مواجهة ضغوط طويلة الأمد لا يمكنه تجاهلها.
ما يزيد من حدة هذا الصراع هو خطاب ترامب في منتدى دافوس، حيث دعا صراحة إلى خفض معدلات الفائدة عالمياً، معتبراً أنها مرتفعة بشكل غير مبر، هذا الخطاب كان بمثابة دعوة غير مباشرة للاحتياطي الفيدرالي الأميركي لتسريع وتيرة خفض الفائدة، ولكن هل يمكن للفيدرالي -في ظل اقتصاد قوي يتمتع بمعدل بطالة يبلغ 4.1% ونمو مطرد في مبيعات التجزئة والدخل الشخصي- أن يستجيب لهذه الدعوة؟ الأرقام الحالية لا تعطي أي مبرر لخفض معدلات الفائدة بشكل سريع، وهو ما يعني أن الفيدرالي قد يرفض الرضوخ لضغوط البيت الأبيض.
في نهاية المطاف، يبدو الصراع بين البيت الأبيض والاحتياطي الفيدرالي حتمياً، البيت الأبيض يسعى إلى تسريع عجلة النمو من خلال سياسات مالية تحفيزية، بينما يتأنى الاحتياطي الفيدرالي في خفض معدلات الفائدة، مفضلاً الانتظار لرؤية تأثير هذه السياسات على التضخم وسوق العمل، ومع انتهاء ولاية جيروم باول في فبراير 2026، يبقى السؤال؛ هل سيُمدد لباول، أم أن ترامب سيبحث عن رئيس جديد يتماشى مع رؤيته الاقتصادية؟
ما هو مؤكد أن الأيام القادمة ستكون حافلة بالتحديات والصراعات، فالاحتياطي الفيدرالي لن يقف مكتوف الأيدي أمام سياسات البيت الأبيض، وسيظل يحافظ على استقلاليته مهما كانت الضغوط، وفي هذه المعركة سيبقى الاقتصاد الأميركي ساحة الصراع، والقرارات التي ستُتخذ في الأشهر المقبلة ستحدد مستقبل السياسة النقدية والمالية في البلاد لسنوات قادمة.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.