انكماش قطاع الخدمات.. جرس إنذار
الاقتصاد مثل كائن حي، يتنفس عبر القطاعات المختلفة، ولكل منها نبضه الخاص، وفي الولايات المتحدة كان قطاع الخدمات القلب النابض للنمو طوال العامين الماضيين، لكنه اليوم يرسل إشارة مقلقة، القراءة التمهيدية لمؤشر مديري المشتريات لشهر فبراير كشفت عن أول انكماش منذ يناير 2023، ما يطرح تساؤلات جدية حول مستقبل الاقتصاد الأميركي.
هذا التراجع لا يحدث في فراغ؛ فهو يأتي وسط عاصفة من التغيرات الاقتصادية، حيث تتشابك السياسات المالية الصارمة مع تداعياتها على المستثمرين والمستهلكين، وقد يكون الأمر مجرد اضطراب مؤقت، لكنه قد يكون أيضاً بداية لانزلاق الاقتصاد نحو مرحلة أكثر اضطراباً، ما يستدعي الانتباه والتحوط قبل أن تتفاقم الأمور.
ترامب وسياسة المواجهة الاقتصادية.. سلاح ذو حدين
في واشنطن، لا أحد يخفى عليه أن دونالد ترامب يقود هجوماً اقتصادياً مباشراً، مستهدفاً رفع إيرادات الحكومة الفيدرالية بأي وسيلة ممكنة، أحد أبرز أسلحته في هذا الصراع هو فرض رسوم جمركية ضخمة على واردات الصين وكندا والمكسيك، التي قد تدر على الخزينة الفيدرالية 350 مليار دولار سنوياً، ما يساعد في تقليص العجز البالغ 1.8 تريليون دولار.
لكن كما في أي معركة، لكل خطوة عواقب، هذه الرسوم تعني تكاليف استيراد أعلى للشركات الأميركية، التي بدورها ستعوض هذه الخسائر عبر رفع الأسعار على المستهلك.
النتيجة؟ تضخم متزايد، وقوة شرائية تتراجع، وحياة يومية تزداد صعوبة للمواطن الأميركي.
الاقتصاد لا ينهار في يوم وليلة.. لكن هل نحتاج إلى الانتظار؟
التاريخ يعلمنا أن الأزمات الاقتصادية لا تنفجر فجأة، بل تتشكل تدريجياً، مثل سحابة تتجمع في الأفق قبل أن تتحول إلى عاصفة، وبالتالي، لا يتطلب الأمر انتظار انهيار كل المؤشرات الاقتصادية قبل أن ندرك الخطر، فحين تنكمش إحدى أقوى ركائز الاقتصاد الأميركي، قطاع الخدمات، فهذا يعني أن الأمور ليست على ما يرام.
وهنا تكمن المعضلة؛ خفض الضرائب، وهو الوعد الذي أطلقه ترامب في حملته الانتخابية، يبدو أكثر صعوبة مما كان متوقعاً، فكيف يمكنه تحقيق ذلك بينما يركز على خفض العجز الفيدرالي؟ الحل الذي اختاره يتمثل في تقليص الإنفاق الحكومي عبر تسريح الموظفين الفيدراليين وخفض النفقات الدفاعية، لكن هذا لا يعني سوى مزيد من الضغوط على النشاط الاقتصادي.
في ظل هذه الظروف، فإن أي بيانات سلبية إضافية ستجعل الوضع أكثر تعقيداً، خاصة مع تراجع مؤشر مديري المشتريات للقطاع الخدمي، الذي كان حتى وقت قريب حائط الصد الذي منع الاقتصاد الأميركي من السقوط في الركود العام الماضي، هذا التراجع المفاجئ يثير القلق، فهل نحن أمام إشارة مبكرة على تحولات أكثر عمقاً؟
سوق العمل لا تزال صامدة.. لكن إلى متى؟
حتى اللحظة، لا تزال سوق العمل الأميركية قوية، لكن القوة لا تعني المناعة المطلقة، مع ارتفاع الضبابية الاقتصادية، قد تجد الشركات نفسها مضطرة إلى التراجع عن التوظيف أو حتى تسريح العمال، إذا استمرت الضغوط التضخمية نتيجة التعريفات الجمركية، فإن ثقة المستهلكين ستتآكل، وسيؤدي ذلك إلى تباطؤ في الإنفاق والاستهلاك، ما قد يضرب سوق العمل في مقتل.
وفي حال بدأت مؤشرات الإنفاق والاستهلاك وثقة المستثمرين بالتراجع، فقد يجد الاحتياطي الفيدرالي نفسه أمام معضلة شائكة؛ هل يخفض الفائدة لدعم الاقتصاد رغم التضخم؟ أم يتمسك بسياساته الحالية على أمل تراجع التضخم بشكل طبيعي؟
المستقبل غامض.. والأسواق تترقب
في هذا المشهد المضطرب، من الواضح أن التقلبات ستكون عنوان المرحلة القادمة، حيث تتأرجح الأسواق بين مخاوف الركود والتضخم، وبين ترقب أي إشارة من الفيدرالي حول تغييرات محتملة في السياسة النقدية.
لا يمكننا الجزم بأن الاقتصاد الأميركي سيدخل في ركود، لكن إشارات الخطر بدأت في الظهور، فتراجع قطاع الخدمات بعد عامين من النمو المستمر ليس مجرد رقم عابر، بل مرآة لما يحدث في العمق، وإذا ساءت البيانات الاقتصادية الأخرى خلال الأشهر المقبلة، فقد يكون ذلك دليلاً على أن الاقتصاد بدأ يواجه تأثيرات السياسات الجديدة بوضوح.
في عالم المال، التحوط للمفاجآت ليس خياراً، بل ضرورة، سواء كنت مستثمراً، رجل أعمال، أو حتى مجرد مراقب، فإن ما يجري في الاقتصاد الأميركي اليوم قد يحمل تداعيات تمتد لما هو أبعد من حدود الولايات المتحدة.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.