العالم يشهد تحولاً جذرياً في طبيعة العمل، مدفوعاً بالتسارع الكبير في تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي، والروبوتات، والأتمتة.. هذه التقنيات لم تعد مجرد أدوات لتحسين الكفاءة، بل أصبحت قوى دافعة تعيد تعريف مفهوم العمل ذاته، وترسم ملامح اقتصادات المستقبل.
في العالم العربي، بكل ما يواجهه من تحديات وما يمتلكه من فرص، بات السؤال ليس إن كانت هذه التقنيات ستغير سوق العمل، بل كيف يمكن للحكومات والشركات والأفراد الاستعداد لهذا التحول الذي أصبح واقعاً حتمياً.
التوقعات تشير إلى أن الأتمتة ستؤدي إلى خلق 97 مليون وظيفة جديدة عالمياً بحلول عام 2025، لكنها في الوقت ذاته ستلغي 85 مليون وظيفة حالية، وفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي.. هذه الأرقام لا تعني فقط تبدل طبيعة الوظائف، بل تؤكد الحاجة الملحة لإعادة هيكلة القوى العاملة بحيث تتناسب مع متطلبات الاقتصاد الرقمي.
هناك وظائف تقليدية ستختفي، مثل عمال خطوط الإنتاج الذين تستبدلهم الروبوتات بقدراتها الفائقة على الأداء المتكرر والدقيق، والوظائف الإدارية الروتينية التي أصبحت اليوم تعتمد على أنظمة الذكاء الاصطناعي لإدارة المواعيد وتحليل البيانات واتخاذ القرارات التشغيلية البسيطة، حتى وظائف خدمة العملاء باتت معرضة للخطر مع انتشار روبوتات المحادثة الذكية، التي باتت تحل محل البشر في التعامل مع استفسارات العملاء وإدارة عمليات الدعم الفني.
تأثير الأتمتة لا يقتصر على قطاع واحد، بل يمتد ليشمل مختلف الصناعات حول العالم؛ في الولايات المتحدة تعتمد البنوك الكبرى مثل «جي بي مورغان» على الذكاء الاصطناعي لتحليل الوثائق القانونية في دقائق، بعد أن كانت هذه المهمة تستغرق أياماً على أيدي المحامين والمساعدين القانونيين؛ في المملكة المتحدة، يعمل النظام الصحي الوطني (NHS) على استخدام الذكاء الاصطناعي في تحليل صور الأشعة وتشخيص الأمراض، مما يسهم في تقليل الأخطاء الطبية وتخفيف الضغط على الأطباء، أما في ألمانيا فإن مصانع السيارات الكبرى أصبحت تعتمد بشكل شبه كامل على الروبوتات المؤتمتة في خطوط التجميع، مما أدى إلى زيادة الإنتاجية وتقليل الأخطاء البشرية وتحسين الكفاءة التشغيلية.
أما في العالم العربي فالتحدي يبدو أكثر تعقيداً، حيث يترافق هذا التحول مع مشكلة قائمة تتمثل في ارتفاع معدلات بطالة الشباب، ما يجعل الحاجة إلى إعادة تأهيل القوى العاملة أكثر إلحاحاً.
تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي يقدر أن 50% من الموظفين حول العالم سيحتاجون إلى إعادة تأهيل مهاراتهم في عام 2025 مع تسارع تبني التكنولوجيا.. في منطقتنا، يصبح هذا الرقم أكثر أهمية نظراً لوجود فجوة رقمية تستدعي استثمارات واسعة في التدريب وبناء المهارات.
ورغم التوجهات العالمية نحو الذكاء الاصطناعي، فإن المهارات التقنية وحدها لن تكفي؛ هناك مهارات لا يمكن للآلات محاكاتها بسهولة، مثل التفكير النقدي، والإبداع، والذكاء العاطفي، وهذه هي الركائز التي يجب أن تركز عليها المؤسسات التعليمية وبرامج التدريب في العالم العربي لضمان جهوزية العمالة لوظائف المستقبل.
السعودية، على سبيل المثال، تبنَّت رؤية 2030 التي تتضمن خططاً لتأهيل الأفراد في المهارات الرقمية عبر مبادرات مثل «مهارات المستقبل»، فيما أطلقت الإمارات البرنامج الوطني للمبرمجين، والذي يهدف إلى تدريب 100 ألف مبرمج وإنشاء 1000 شركة رقمية بحلول عام 2025.
هذه المبادرات تمثل خطوات في الاتجاه الصحيح، لكنها تحتاج إلى توسع وشراكات بين القطاعين العام والخاص لضمان تأثير واسع ومستدام.
الحكومات في المنطقة تلعب دوراً محورياً في تشكيل مستقبل العمل، وعليها تحقيق توازن دقيق بين تشجيع الابتكار التكنولوجي وحماية القوى العاملة من تبعات الأتمتة. إحدى الآليات الفعالة هي الاستثمار في أنظمة التعليم المستمر التي تمكن العمال من تحديث مهاراتهم باستمرار، إضافة إلى إنشاء شبكات أمان اجتماعي للعمال المتأثرين بالتحولات التقنية، والتي يمكن أن تشمل مزايا البطالة، وبرامج إعادة التدريب، وحوافز للشركات التي تلتزم بتوظيف العمالة وإعادة تأهيلها بدلاً من تسريحها.
في خضم هذه التحديات، تبرز فرص هائلة أمام العالم العربي.. يتمتع الشباب العربي بثقافة رقمية متقدمة، حيث تشير الإحصائيات إلى أن نسبة انتشار الإنترنت في الدول العربية تجاوزت 70% في عام 2023، مع وجود نحو 200 مليون مستخدم للإنترنت في المنطقة.. وتتصدر دول مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر القائمة بنسبة انتشار تقارب 99% و98% على التوالي.
هذا الانتشار الواسع للتكنولوجيا يجعل الشباب العربي مؤهلاً لاستغلال إمكانات الذكاء الاصطناعي والأتمتة، بالإضافة إلى ذلك تسهم جهود الدول العربية في تنويع اقتصاداتها بعيداً عن النفط في خلق بيئة مواتية للابتكار وريادة الأعمال في المجال التقني، كما أن صعود اقتصاد العمل الحر والعمل عن بُعد يفتح آفاقاً جديدة للعمالة العربية، حيث توفر منصات مثل «أب وورك» و«فايفر» و«أوبر» فرصاً للمهارات العربية للوصول إلى الأسواق العالمية دون الحاجة إلى الهجرة الفعلية.
مستقبل العمل في العالم العربي لن يكون نسخة مكررة من تجارب الدول الغربية، بل يمكن أن يكون نموذجاً فريداً من نوعه، يدمج بين الابتكار الرقمي، والاقتصاد المستدام، والاستثمار في رأس المال البشري.
لكن النجاح في تحقيق هذا المستقبل يتوقف على سرعة وكفاءة الاستجابة لهذه التحولات، إذ إن العالم لن ينتظر.. المستقبل ليس شيئاً نخشى منه، بل هو شيء نصنعه، والعالم العربي لديه كل الأدوات والإمكانات ليكون في قلب هذا التحول العالمي.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.