هل سبق لك أن شاهدت طفلاً صغيراً وهو يبدأ التعلّم؟ سواء كان يتعلم المشي أو يكوّن جملة لأول مرة، إن كل طفل يتعلّم ويستجيب لبيئته بطريقة فريدة ومختلفة عن الآخرين. بالنسبة لي، هذا هو أبسط تشبيه يمكن استخدامه لشرح كيفية عمل «تشات جي بي تي».
نعلم أن أي برنامج ذكاء اصطناعي يقسّم المعلومات إلى أجزاء ويربطها معاً ليُقدّم أكثر الاستجابات منطقية بالاستناد إلى مجموعات البيانات المُتاحة. وعند النظر إلى قابلية الاستخدام، فإن طريقة الاستجابة التي تُقدّم بها كلٌّ من هذه الخوارزميات، هي ما يُميّز البرنامج عن أقرب منافسيه. لنكن واقعيين، معظم الشركات لا تحاول اجتياز اختبارات «السات» أو أي اختبار معياري آخر حالياً.
بالطبع، ربما تُعتبر الاختبارات المعيارية على الأرجح أسهل وسيلة لشرح الاختلافات في الأداء التقني لكل نموذج لغوي كبير. ولكن بالنسبة للشركات، فإن الأهم هو كيفية فهم المُخرجات واستخدامها في اتخاذ القرارات. فإذا كنت لا تفهم المنطق وراء الاستجابة التي يُقدّمها النموذج اللغوي، فمن غير المُرجّح أن تشعر بالثقة الكافية للاعتماد عليها في حل مشكلات العمل أو خدمة العملاء.
وهنا يأتي دور «ديب سيك»، حيث يُسهم التفكير المعرفي الذي يوفّره، في إعطاء تفسير واضحٍ لآلية وصوله إلى استجابة مُحدّدة، ما يجعله البرنامج المُفضّل للعديد من مستخدمي الأعمال.
إن الأسلوب التفصيلي في استجابات «ديب سيك»، الذي يُقدّم خلفية واضحة حول عملية التفكير الإدراكي، يتيح للبشر –العنصر الأهم في هذه المعادلة– التعامل مع هذه الخوارزميات بطريقة أكثر فاعلية. وهذا يعني أنه يُفسّر كيفية وصوله إلى الإجابة بشكلٍ أفضل. وهذا أمر بالغ الأهمية، لأننا جميعاً نعلم أن عبارة: «ثق بي – هذا صحيح» لا تكفي لإقناع المديرين أو القادة دون وجود أدلة داعمة.
وبغض النظر عن مدى تطوّر الخوارزميات الحالية، فإن القرار النهائي لا يزال بيد الإنسان، في الوقت الحالي على الأقل، لتحديد إمكانية دمج الذكاء الاصطناعي في المؤسسة.
أذكر ورقة بحثية قرأتها منذ فترة تناولت كيفية تأثير طرق العرض المختلفة في الوصول إلى نتائج مختلفة بشكلٍ ملحوظ، استناداً إلى نوع شخصية المُتلقّي، وذلك في سياق التغيير لزيادة الكفاءة التنظيمية في الشركة. ولكن الحقيقة، ففي نهاية المطاف، أنت تعرف الأشخاص داخل مؤسستك أفضل من أي خوارزمية جاهزة.
من خلال الجمع بين معرفتك بالمساهمين الرئيسيين في شركتك وانخفاض تكاليف الحلول التقنية، يمكن تسريع وتيرة التحوّل عبر الذكاء الاصطناعي. لقد أسهم انخفاض تكاليف الحوسبة وواجهات برمجة التطبيقات إلى تخفيف القيود على تكلفة التجريب، وبالرغم من أن الكفاءة ستظل الهدف الأساسي، فإن تقليل تكلفة أنظمة اتخاذ القرار والوكلاء المستقلين يمنح المؤسسات مجالاً أوسع للابتكار والنمو.. ولدينا في ما يلي مثالان على كيفية توفر فرص أكبر للتحول الرقمي داخل المؤسسات.
خوارزميات استهداف العملاء الآلية
أتذكر عملي مع شركة في قطاع الضيافة كانت تعتمد على قاعدة بيانات تقليدية محددة لإدارة علاقاتها مع العملاء، من خلال الاعتماد على مزوّد خدمة خارجي لقاعدة البيانات، إعداد التقارير باستخدام «الإكسل» وتقنيات ذكاء الأعمال. كان لدى الفريق أسبوعان فقط للاستجابة لطلبات البيانات، ولم يكن لديهم سوى تقارير أداء تسويقية عامة عبر المزوّدين كافة. وسرعان ما أدركت الشركة أنها تفتقر إلى البيانات والموارد اللازمة للاستجابة الفورية لاحتياجات العملاء. ونظراً للتأخير المستمر في توفير البيانات وإعداد التقارير، وافقت فرق القيادة على تنفيذ تحوّل رقمي شامل في الشركة. كان الهدف الرئيسي هو تسهيل الوصول إلى المعلومات، ولم يكن الذكاء الاصطناعي ببساطة سوى «الكريمة على الكعكة التي تأخّرت في الخَبز».
من خلال استراتيجية استشارية نموذجية ودقيقة، حدّدت الشركة المجالات والحالات الرئيسية التي يمكن أن تستفيد من هذا التحوّل، ما أدّى إلى فتح مسارات عمل جديدة تشمل تكنولوجيا المعلومات، التسويق، خدمة العملاء، إدارة الموردين، الموارد البشرية والمرافق.
ونظراً لطبيعة العمل المترابطة في الشركة، جاء قرار التركيز على تكنولوجيا المعلومات والتسويق والموارد البشرية والمرافق في المرتبة الأولى. كان التحوّل التكنولوجي هو أبسط خطوة لنقل البنية التحتية إلى منصة أكثر تطوراً تشمل أنحاء الشركة كافة، تُتيح الوصول الفوري إلى البيانات وإعداد التقارير في الوقت الفعلي، كما تسمح بتسهيل التكامل والتواصل مع موردّي الخدمات.
غير أن فريق التسويق اتخذ نهجاً مختلفاً، حيث اعتمد في فهم رغبات العملاء على فرق خدمة العملاء ومورّدي إدارة علاقات العملاء، ليكتشف في النهاية أنه يفتقر إلى أي آلية لتصنيف قاعدة عملائه، خاصة وأن زملاءهم في مواقع استقبال العملاء يُمكنهم، وبسهولة، تحديد العملاء الأوفياء. لذلك، جعلوا من فهم العملاء هدفهم الأول ومهمّتهم الأساسية. وبعد تحليل دقيق، تمكّنوا من تقسيم العملاء إلى زوار لمرة واحدة، عملاء أوفياء، وعملاء سابقين. كما حدّدوا الأنماط التي جذبت العملاء إلى مواقع وأحداث مُعيّنة. وعلى الرغم من نجاحهم في تحقيق هدفهم، غير أن هذا الاكتشاف فتح أعينهم على واقع قدرتهم على إيجاد تحسينات كبيرة في استراتيجيات التسويق لديهم.
عند مشاركة فريق التسويق لهذه النتائج مع فرق تكنولوجيا المعلومات، أدركوا أن الحل يكمن في تبسيط قاعدة البيانات لضمان التواصل الأمثل في استهداف العملاء المناسبين، كما سمحت هذه النتائج أيضاً بتوحيد الفرق التشغيلية لقوائم البائعين الذي لهم متطلّبات اتصال مُحدّدة فقط. كما عمل فريق التسويق مع فرق البيانات الداخلية على تطوير خوارزميات مُخصّصة لتحديد العملاء المستهدفين، وتوقيت الرسائل، واختيار القنوات المناسبة، وصياغة المحتوى الفعّال، كما تم توظيف النماذج اللغوية الكبيرة العناوين والمحتوى، مع استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي المُخصّصة لتحديد بقية معلومات الاتصال.
كانت أكبر تكلفة تكمن في تحليل سلوك العملاء، وليس في اختيار نموذج «ديب سيك» أو «تشات جي بي تي»، فالعائد الأكبر على الاستثمار لم يكن في اختيار نموذج مُعّين، بل في حل المشكلة الأساسية لتجزئة العملاء. وجاءت النتيجة في زيادة القدرة على دراسة اتّجاهات العملاء والاستفادة من تقارير النماذج اللغوية، ما أسهم في تحسن أداء الحملات التسويقية المدعومة بالذكاء الاصطناعي بنسبة 400%، ما وفّر وقتاً كبيراً أمام فريق التسويق وزاد من كفاءتهم.
ما أسهم في نجاح هذه الشركة هو إدراكها ضرورة الاستمرار في البناء على الرؤى الناجحة، وهو جانب غالباً ما تهمله وتتجنّبه معظم الشركات في سعيها وراء تطبيق الذكاء الاصطناعي. ونظراً لأن العديد من البنى التحتية التقنية الحالية موجّهة نحو نشر نماذج الصندوق الأسود، فإن هناك فرصة أمام الشركات لتجاوز بعض المراحل التي مرّت بها شركة الضيافة التي ذكرتها سابقاً.
إذا عدنا إلى المقياس الأصلي في تشبيه الطفل الذي يتعلّم مهارات جديدة، فإننا لا نتوقع من الطفل أن يفهم الكلام ويتعلّم نطق الكلمات فقط ثم يتوقف عند ذلك. بل يتطوّر من التعرّف على الأصوات والمعاني، كما أن تعرّضه للعالم الخارجي سوف يُساعده على تكوين الجمل والمحادثات الكاملة والمُرتّبة. وهذا ينطبق على الشركات، فإن تحولها المدفوع بالذكاء الاصطناعي يجب أن يكون شاملاً وليس محدوداً، خاصّة وأن التغييرات الصغيرة في وظائف منفصلة لن تؤدّي إلى تحقيق عائد الاستثمار الذي تسعى إليه الشركات. فعندما تحقق إحدى المجالات تحسناً، فإن البناء على ذلك لضمان القيمة على نطاق واسع يمكن أن يكون النهج الأفضل لضمان العائد على الاستثمار، وهو ما لا يعتمد على اختيار نموذج ذكاء اصطناعي مُعيّن، بل على القيمة الفعلية التي يتمّ تحقيقها للعملاء.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.