حين تفقد الأسواق بوصلتها.. كيف تصمد الاقتصادات أمام عدم اليقين؟

حين تفقد الأسواق بوصلتها.. كيف تصمد الاقتصادات أمام عدم اليقين؟
طالع الأسمري clock

طالع الأسمري

كاتب ومستشار في مبادرات التنمية المستدامة والتميز المؤسسي

إذا كان الماضي القريب قد علّمنا شيئاً، فهو أن الاستقرار الاقتصادي لم يعد هو القاعدة، بل أصبح الاستثناء! لم تعد الأسواق تتحرك وفق توازنات العرض والطلب فقط، بل باتت الأزمات المتلاحقة تعيد رسم خارطة تدفقات رؤوس الأموال والاستثمارات بدءاً من الأزمات المالية العالمية، مروراً بجائحة كوفيد – 19، وصولاً إلى أزمة التضخم والطاقة وسلاسل الإمداد في واقعنا الحالي، حيث بات السؤال الأكثر إلحاحاً: كيف يمكن بناء نماذج اقتصادية أكثر صلابة تتيح مواجهة التقلبات المستمرة؟ وهل نحن أمام تحولات جذرية تعيد تشكيل مفهوم الاستقرار نفسه؟

الأزمات الاقتصادية لم تعد أحداثاً متفرقة، بل باتت سمةً من سمات العصر الحديث، فالأزمة المالية العالمية في 2008 كشفت هشاشة النظام المالي العالمي وأدت إلى انهيارات مصرفية واسعة، ما دفع الحكومات إلى ضخ حزم إنقاذ ضخمة تجاوزت 10 تريليونات دولار وفقاً لصندوق النقد الدولي، ورغم هذه الجهود، ما تزال آثار الأزمة تعيد تشكيل المشهد الاقتصادي، وكأن المال قادر على إطفاء الحرائق، لكنه لا يمنع اشتعالها من جديد!

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

 

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

 جائحة كوفيد-19 أثرت على الاقتصاد العالمي بشكل غير مسبوق، حيث قدرت الخسائر بأكثر من 12 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وفقاً لتقديرات صندوق النقد الدولي، ولم تكد الأسواق تتعافى وتلتقط أنفاسها من آثار الجائحة حتى اندلعت أزمة الطاقة والتضخم في 2022-2023، والتي كانت نتيجة حتمية لاضطرابات سلاسل التوريد والإنفاق التحفيزي الضخم، إلى جانب التوترات الجيوسياسية العالمية، ما أدى إلى قفزات غير مسبوقة في معدلات التضخم، حيث سجل التضخم في الولايات المتحدة الأميركية 9.1% في يونيو 2022، وهو الأعلى منذ 40 عاماً، بحسب وزارة العمل الأميركية، ورداً على ذلك، أقدمت البنوك المركزية بقيادة الاحتياطي الفيدرالي على رفع أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة في محاولة لكبح جماح التضخم، وهو ما خلق تحديات جديدة أمام الأسواق العالمية.

فی مواجهة هذه التحديات، بدأت الدول في  إعادة النظر في استراتيجياتها الاقتصادية، اعتمدت المملكة العربية السعودية استراتيجية اقتصادية لتعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الواردات، ضمن إطار رؤية 2030، ففي هذا السياق تم تخصيص استثمارات تتجاوز 2.7 مليار دولار لدعم القطاع الصناعي، مستهدفةً تطوير الصناعات التحويلية، والدوائية، والغذائية، وصناعات التكنولوجيا المتقدمة، ما يعزز تنافسية الاقتصاد الوطني ويحقق الاكتفاء الذاتي في العديد من القطاعات الحيوية.

إلى جانب ذلك، شهد قطاع الخدمات اللوجستية تطوراً كبيراً، أفقياً وعمودياً، حيث استثمرت السعودية في تطوير بنيتها التحتية لتعزيز كفاءة الموانئ، وهو ما انعكس في الريادة العالمية للموانئ السعودية، ووفقاً للتقرير الدولي لمؤشر أداء موانئ الحاويات 2021، تصدّرت موانئ المملكة بين 370 ميناءً عالمياً، حيث حصل ميناء الملك عبد الله على المرتبة الأولى عالمياً، وجاء ميناء جدة الإسلامي في المرتبة الثامنة، بينما حلّ ميناء الملك عبد العزيز في الدمام في المرتبة الرابعة عشرة من حيث كفاءة العمليات التشغيلية.

وتعكس هذه الجهود التزام السعودية بتعزيز قدراتها الصناعية واللوجستية، ما يرسّخ مكانتها كمركز إقليمي ودولي للنقل والتجارة، ويؤكد نجاح استراتيجياتها الطموحة لتحقيق التنوع الاقتصادي المستدام في ظل رؤية 2030.

في خضم التحديات الاقتصادية العالمية، يبرز التحول الرقمي كأحد الحلول الجوهرية لتعزيز النمو الاقتصادي، ووفقاً لتقرير إيجابيات التكنولوجيا الرقمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا الصادر عن البنك الدولي 2021، فإن الرقمنة الكاملة للاقتصاد في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تسهم في زيادة نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي بنسبة لا تقل عن 46% على مدى 30 عاماً، وبمكاسب طويلة الأجل لا تقل عن 1.6 تريليون دولار.

واستجابة لهذه المعطيات، أعلنت السعودية خلال مؤتمر "ليب 2025" عن جذب استثمارات بقيمة 14.9 مليار دولار في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات المتقدمة، بهدف ترسيخ مكانتها كمركز إقليمي رائد في هذا المجال.

وفي ظل التقلبات المستمرة في أسواق الطاقة العالمية، عززت السعودية استراتيجيتها لتنويع الاقتصاد بعيداً عن الاعتماد على النفط، حيث تستهدف وفقاً لمبادرة السعودية الخضراء، توليد 50% من احتياجاتها من الكهرباء عبر مصادر متجددة بحلول عام 2030، ما يرسخ مكانتها في مجال الاستدامة، وقد ضخت السعودية استثمارات ضخمة لدعم قطاع الطاقة المتجددة، من بينها مشاريع طاقة الرياح والطاقة الشمسية، ضمن خطة تهدف إلى تحقيق مزيج طاقي متوازن وتقليل الانبعاثات الكربونية، هذه الجهود تضع المملكة في مقدمة الدول التي تتبنى حلولاً مستدامة لمستقبل الطاقة العالمي.

مع تزايد عدم اليقين، تدخل الأسواق العالمية مرحلة إعادة تشكيل جذرية، فالتوجه نحو الاستقلال الاقتصادي الجزئي بدلاً من الاعتماد الكلي على العولمة أصبح أكثر وضوحاً، حيث تتجه الدول إلى تأمين سلاسل الإمداد محلياً وتقليل الاعتماد على الشركاء التجاريين التقليديين.

فالتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي سيصبحان المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي في السنوات المقبلة، حيث يتوقع أن يسهم التحول الرقمي في تحسين الإنتاجية في النظم الاقتصادية وتخفيف آثار حدة الأزمات الاقتصادية، في الوقت ذاته ستلعب العملات الرقمية والسياسات النقدية الذكية دوراً متعاظماً في إعادة تشكيل النظام المالي العالمي، ما قد يؤدي إلى تقليل الاعتماد على الأنظمة المصرفية التقليدية.

ما نشهده اليوم ليس مجرد موجة مؤقتة من الأزمات، بل تحول بنيوي في شكل الاقتصاد العالمي، لن يكون هناك طريق واحد لتحقيق الاستقرار، لكن الدول والشركات القادرة على التكيف السريع، والاستثمار في التقنيات الحديثة، وإعادة هيكلة سياساتها المالية والطاقية ستكون هي الفائزة والرابحة في هذا السباق، ويبقى السؤال الأهم: هل نحن مستعدون لاقتصاد المستقبل، أم أننا لا نزال نحاول النجاة بأساليب الماضي؟

تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.