لم تعد المواجهة الاقتصادية بين الولايات المتحدة والصين مجرّد قضية عابرة أو خلاف مؤقت، بل تحوّلت إلى صراع راسخ يزداد تعقيداً مع مرور الوقت، ويُهدّد بتداعيات جسيمة على الاقتصاد العالمي، وتُشكّل العقوبات الأخيرة التي فرضتها إدارة ترامب تصعيداً جديداً يمثل نزاعاً تجارياً متوتراً ومتصاعداً، ورغم أن التركيز كان منصبّاً في البداية على فك الارتباط الاقتصادي بين أكبر اقتصادين في العالم، فإن الرسوم الجمركية والتعريفات الإضافية التي فرضتها الولايات المتحدة الأميركية لم تؤثر على الصين وحدها، بل امتدت آثارها إلى العديد من الأسواق العالمية، لا سيما في آسيا وأوروبا، ما انعكس سلباً على الصناعات وسلاسل التوريد والأسواق المالية.
وتستهدف بعض الإجراءات التأثير بشكلٍ مباشر على الاقتصاد الصيني الذي يعتمد بشكلٍ كبير على التصدير، خاصةً بعد زيادة الولايات المتحدة مؤخراً تعريفاتها الجمركية على السلع الصينية إلى 54%، حيث تستند هذه الإجراءات على الحواجز التجارية التي فُرضت لأول مرة خلال الولاية الأولى للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي استمرت في عهد ولاية بايدن، مع تعزيز كبح الصادرات الصناعية الصينية من خلال رفع الرسوم الجمركية على الصلب والألومنيوم من الصين.
واللافت أن إلغاء الإعفاء الضريبي للحد الأدنى البالغ 800 دولار أميركي، شكّل تهديداً كبيراً لشركات مثل "شي إن" و"تيمو"، اللتين استفادتا سابقاً من ثغرات في قوانين الاستيراد الأميركية، حيث تأتي هذه الخطوة في سياق استراتيجي أوسع للحد من النفوذ الاقتصادي الصيني وإعادة تشكيل متوازية.
وبالنظر إلى مكانة الصين باعتبارها ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وحلقة وصل حيوية في سلاسل التوريد العالمية، فقد تُعطّل الإجراءات الأميركية الصناعات التي تعتمد بشكلٍ مباشر على المنتجات الصينية منخفضة التكلفة، في وقت تجد فيه الولايات المتحدة الأميركية أن هذه القيود قد تتجاوز التعريفات الجمركية، وتعرقل المسارات الاقتصادية التي سمحت للشركات الصينية بالازدهار والتوسّع في الأسواق الصينية، ومن المرجح أن تستهدف السياسات المستقبلية الحلول البديلة التي تستخدمها الشركات المملوكة للصين لتجنب الرسوم الجمركية، مثل نقل الإنتاج إلى فيتنام والمكسيك، في الوقت الذي أوضحت فيه الولايات المتحدة عزمها على سد هذه الثغرات التجارية بقوة، لزيادة الضغط الاقتصادي على الصين.
وقد عملت الصين على الرّد على هذه السياسات بطريقة مدروسة وحذرة، حيث تُقيّم خياراتها وتُحدّد خطواتها المقبلة بعناية، حيث فرضت بكين رسوماً جمركية بنسبة 34% إلى جانب تعريفات جمركية تتراوح بين 10 – 15% على المنتجات الزراعية الأميركية، وعلاوة على ذلك، تستغل الصين مكانتها باعتبارها أكبر منتج في العالم للمعادن الأرضية النادرة من خلال الحد من الصادرات، الأمر الذي يؤثر ليس فقط على الولايات المتحدة، بل أيضاً على سلسلة التوريد العالمية، وعلى الرغم من تصاعد الضغوط الخارجية، تواصل الصين التمسّك بموقفها الرافض للتصعيد، مُشدّدةً على التزامها بدعم مسار العولمة الاقتصادية.
وفي هذا السياق، جاء خطاب رئيس مجلس الدولة الصيني لي تشيانغ خلال منتدى التنمية الصيني الذي عُقد في 23 مارس، والذي حضره عدد من كبار الرؤساء التنفيذيين لشركات أميركية متعددة الجنسيات مثل تيم كوك (أبل)، وراج سوبرامانيام (فيديكس)، وألبرت بورلا (فايزر)، وجّه فيه لي تشيانغ دعوة واضحة للشركات العالمية لـ"مقاومة النزعة الحمائية"، مؤكداً التزام بلاده بتوسيع فرص الوصول إلى السوق وتعزيز التعاون الدولي.
يشير النهج الأميركي القائم على الاستمرار في فرض زيادات على الرسوم الجمركية، إلى أنّ التوصل إلى حل للنزاع التجاري مع الصين لا يبدو وشيكاً، بل قد يؤدي إلى تصعيد غير مسبوق وتبعات اقتصادية جسيمة بدأت ملامحها بالظهور من خلال تراجع أسواق الأسهم العالمية، وخسائر تُقدّر بتريليونات الدولارات، حيث من المتوقّع أن تواجه الشركات الأميركية التي تعتمد على التصنيع في الصين تحديات كبيرة، وفي مقدمتها ارتفاع التكاليف التشغيلية بشكلٍ حاد، وهو ما سينعكس بدوره على أسعار المستهلك ويهدد بزعزعة استقرار الأسواق العالمية، كما ستضطر الشركات متعدّدة الجنسيات، التي قضت عقوداً في بناء سلاسل توريد متينة في الصين، إلى إعادة هيكلة عملياتها التشغيلية بشكلٍ جذري، وهو ما يعتبر أمراً معقداً ومكلفاً على الصعيدين المالي واللوجستي.
ورغم أن الرئيس السابق دونالد ترامب ألمح إلى إمكانية فتح باب الحوار بشأن القضايا التجارية، معبّراً عن رغبته في لقاء الرئيس الصيني شي جين بينغ في المستقبل القريب، فإن إدارته أظهرت في المقابل التزاماً واضحاً بالمضي قدماً في فرض تعريفات جمركية واسعة النطاق، في إطار نهج أكثر تشدداً تجاه العلاقات الاقتصادية مع بكين.
وبتبنّي الولايات المتحدة الأميركية نهجاً اقتصادياً متشدّداً، وابتعادها عن بعض الاستراتيجيات الدبلوماسية التقليدية التي كانت نهج التجارة الدولية سابقاً، قد ينتج عن ذلك تزايد العزلة الاقتصادية، وتُحفّز الصين على تسريع سعيها نحو الاكتفاء الذاتي، خاصةً في القطاعات الاستراتيجية مثل أشباه الموصلات، والذكاء الاصطناعي، والتكنولوجيا الخضراء، وذلك تجلّى بالفعل باستثمار الصين بفعالية في هذه الصناعات، والذي سيؤدّي بدوره إلى تقليل اعتمادها على الأسواق الغربية.
بدورها أثّرت هذه التداعيات على الاقتصاد العالمي، نظراً لأهمية العلاقات التجارية بين الولايات المتحدة والصين عالمياً، حيث إنه لطالما استفادت العديد من الدول من التدفق التجاري بين القوتين الاقتصاديتين، إلا أن هذا التوازن بات مهدداً باضطرابات محتملة في ظل تصاعد التوترات، كما وجدت الدول الأوروبية نفسها أمام تحدٍّ مزدوج، خاصة أنها تتبنى نهجاً متوازناً تجاه الصين، إلا أنها مطابة حالياً بالتعامل مع التأثيرات الناشئة التي تعتمد على الاستثمارات الصينية، مواجهةً بذلك حالةً من عدم اليقين، في وقت تعيد فيه بكين النظر في استراتيجياتها الاقتصادية.
بالإضافة إلى الوضع الحرج الذي تجد فيه الشركات العالمية العاملة في كل من الولايات المتحدة الأميركية والصين ضرورة اتخاذ قرارات صعبة، قد تترتب عليها تبعات تشغيلية ومالية كبيرة.
يشير مسار هذه العلاقات التجارية إلى اتجاه نحو انفصال اقتصادي أعمق وتحول من العولمة التعاونية إلى منافسة اقتصادية متزايدة تتأثر بالعوامل الجيوسياسية، وبينما تسعى الولايات المتحدة إلى تعزيز صناعاتها وترسيخ مكانتها الاقتصادية، عليها أن تدرس بعناية العواقب غير المقصودة لسياساتها التجارية، من ناحية أخرى، من غير المرجح أن تبقى الصين مكتوفة الأيدي، وقد تكون لردود أفعالها آثار بعيدة المدى وغير متوقعة على الاقتصاد العالمي.
ومع استمرار تصاعد التوترات، يجب على المجتمع الدولي الأوسع الاستعداد لعواقب متوقعة وغير متوقعة، فالحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين ليست مجرد قضية ثنائية، بل لحظة محورية في تاريخ الاقتصاد العالمي، تشكل فيها القرارات المتخذة اليوم مستقبل التجارة الدولية والتحالفات الاقتصادية وتوازن القوى لعقود قادمة.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.