الحج في زمن التكنولوجيا الذكية

الحج في زمن التكنولوجيا الذكية
أندرياس هاسيلوف clock

أندرياس هاسيلوف

الرئيس التنفيذي لشركتي أومبوري و فايغريد

يشكّل موسم الحج لعام 2025 أضخم اختبار واقعي لتكنولوجيا المدن الذكية عرفه العالم حتى اليوم؛ إذ يستعد أكثر من مليوني حاج لأداء المناسك في بيئة شديدة الحرارة، وتحت ضغط لوجستي كثيف لا مجال فيه للخطأ. لقد تحوّلت مكة المكرمة إلى نموذج تشغيلي متقدّم هو الأول من نوعه عالميّاً، في تجربة تستحق أن يتأملها كل رائد أعمال.

هكذا تُبنى البنية التحتية التي تنبض بالحياة

في ظل التوقعات باستقبال أكثر من مليوني حاج، تبرز تحديات غير مسبوقة: درجات حرارة مرتفعة، تدفّق بشري كثيف، وتوقّعات متزايدة بمستوى عالٍ من الراحة والسلامة.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

وجاءت استجابة المملكة العربية السعودية متكاملة، عبر توظيف الذكاء الاصطناعي، وإنترنت الأشياء، والبنية التحتية الذكية، لتغطي رحلة الحاج بأكملها، انسجاماً مع مستهدفات رؤية السعودية 2030.

ووفقاً للمسؤولين السعوديين، يجري هذا العام تنفيذ أكثر من 120 مبادرة مدعومة بالتقنية، في خطوة تؤسس لمعايير جديدة حول كيفية تسخير الذكاء الاصطناعي في تعزيز السلامة العامة، وتنظيم الحشود، وتحسين تجربة الحجاج، دون المساس بجوهر الحج الروحي.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

خدمة ملايين الحجاج

انتشرت روبوتات متعددة اللغات، في أرجاء المسجد الحرام، تقدم الإرشادات والخدمات التوعوية والدينية بـ11 لغة، لتكون عوناً فعّالاً للحجاج من مختلف الجنسيات.

ويحمل كل حاج بطاقة ذكية تتضمّن بياناته الصحية ومعلومات السفر والسكن، بينما تتولى أنظمة التحقق البيومتري عمليات التعرّف دون تلامس بشري، ما يُسرّع الإجراءات الأمنية ويُعزّز القدرة على الاستجابة السريعة للحالات الطارئة.

وتؤدي منصة «نسك» الرقمية دور مركز قيادة رقمي لكل حاج، حيث تتيح له إدارة الحجوزات، واستلام التنبيهات الفورية، وتنظيم جميع تفاصيل رحلته. ومن المتوقع أن يستخدم هذه المنصة أكثر من 1.4 مليون حاج هذا الموسم فقط.

لقد باتت التكنولوجيا قادرة على خلق بيئات ذكية تستجيب لحاجات الإنسان بشكل تلقائي وطبيعي، حيث تتكامل الحلول الرقمية والميدانية بسلاسة، فيما يُعرف بتجربة «الفيجيتال» التي تمزج بين الواقعين المادي والرقمي بسلاسة تامة.

تقنية بروح إنسانية

من اللافت أن المملكة لم تغفل جانب الوصول الرقمي الشامل، بل حرصت على أن تكون الابتكارات في متناول الجميع، بمن فيهم الحجاج غير المعتادين على استخدام الهواتف الذكية أو التقنيات الحديثة.. وقد خُصّصت مراكز خدمة «نسك» الميدانية لتوفير الدعم المباشر، من خلال موظفين يتحدثون عدة لغات. كما وُزّعت أكشاك ذكية توفّر معلومات فورية ومُحلية، إلى جانب مركز دعم هاتفي يعمل على مدار الساعة عبر الرقم 19929، ويقدم المساعدة بأكثر من 10 لغات.

الهدف ليس استبدال الخدمة البشرية، بل دعمها وتوسيع أثرها، وهنا تظهر التكنولوجيا كوسيلة لتعظيم قيم الرحمة والتيسير، لا تقليصها.

حين تلتقي النية الصادقة بالابتكار التقني

ما نشهده خلال موسم الحج لعام 2025 هو نموذج حي لكيفية تسخير التقنية لخدمة الإنسان، وتعزيز كرامته، وحماية أمنه، ودعم تجربته الروحية.

تثبت المملكة أن التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي لا يعني التعقيد، بل يمكن أن يعني الوضوح، والثقة، والاهتمام العميق بالتفاصيل.

وفي بيئة استثنائية كمكة المكرمة خلال موسم الحج، تكون أفضل أنواع التكنولوجيا هي تلك التي لا تُرى.. ليس لأنها سرية، بل لأنها تدعم التجربة دون أن تشتت الانتباه، فهي تتنبأ بالاكتظاظ قبل أن يشكّل خطراً، وتساعد في تبريد الأجواء من خلال الاستمطار السحابي الموجّه بالذكاء الاصطناعي، وتقدم الدعم للمحرومين من الأدوات الرقمية عبر المراكز البشرية والأكشاك الذكية. والنتيجة: بيئة أكثر أماناً، وأكثر شمولاً، وأكثر إنسانية.

وأهم ما في الأمر أن هذه مجرد بداية.

ما يجري في مكة ليس مجرد حدث موسمي، بل هو خريطة طريق لمستقبل الذكاء الاصطناعي، حيث تُدار البيئات الذكية بانسجام ودقّة، وتندمج البنى التحتية المادية بالذكاء الرقمي لتخلق مساحات تتنبأ بالحاجة، وتتكيّف مع المتغيرات، وتتواصل مع الإنسان على مستوى عميق.

المدن الذكية التي تولد من هذه الثورة ستتمكّن من فهم الإنسان، ودعم إمكاناته، وتقديم تجارب فطرية لدرجة تبدو وكأنها سحرية، إنها بداية لإعادة تعريف العلاقة بين الإنسان والبيئة التي يعيش فيها، نحن لا نشهد تطوراً تقنيّاً فحسب، بل ولادة نمط جديد من الحياة الإنسانية المتمركزة حول الإنسان.

إن موسم الحج 2025 ليس لحظة عابرة، بل نافذة على عالم ممكن التحقق؛ عالم يقوده التصميم المدفوع بالنية الصالحة، ويُفعّله الذكاء الاصطناعي، ويقرّب المدن من الناس الذين تسكنهم، وفي الوقت الذي نتطلع فيه إلى مستقبل البيئات الذكية المتجاوبة، تذكّرنا مكة أن الابتكار حين يُوجّه بنية خالصة، لا يُلغِي التجربة الإنسانية، بل يسمو بها إلى آفاق أرحب.

أندرياس هاسيلوف هو رائد أعمال تقني مقيم في دبي، يشغل منصب الرئيس التنفيذي لشركتي أومبوري وفايغريد، يتمتع بخبرة عالمية في التحول الرقمي وقيادة فرق الابتكار، وقد أسس منصات تقنية تُستخدم في أكثر من 50 دولة لتحسين تجربة العملاء وتعزيز الكفاءة التشغيلية.

بدأ أندرياس مسيرته المهنية في أدوار رفيعة ضمن قطاعات تتسم بالتعقيد والتنظيم الصارم، مثل رئيس الأمن السيبراني في شركة السكك الحديدية النرويجية، ثم أصبح قائداً تقنياً في بنك نورد نت، حيث صقل خبراته في قيادة الفرق متعددة التخصصات وتطوير حلول تقنية تتمحور حول تجربة المستخدم. مدفوعاً بشغفه بالتحوّل الرقمي، أسّس أندرياس شركة فايغريد، التي قدّمت حلولاً متكاملة تهدف إلى تحسين تجربة العملاء في قطاع التجزئة، وتعزيز المبيعات، ورفع الكفاءة التشغيلية، ما يعكس روح المبادرة التي يتمتع بها.

تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.

أندرياس هاسيلوف، الرئيس التنفيذي لشركتي أومبوري وفايغريد