لَعقودٍ طويلة، وخاصة بعد الحرب العالمية الثانية استقرّ العُرف في معظم دول العالم على إحالة الموظفين والعمال إلى التقاعد عند بلوغهم سِنّاً تتراوح بين الستين والخامسة والستين.. وكان ذلك تدبيراً ملائماً لزمانٍ كان فيه متوسط الأعمار محدوداً لم يتجاوز الـ70 سنة.. أمّا اليوم، وقد تبدّلت خارطة الأعمار وتشابكت التحديات الديموغرافية والاقتصادية، أصبح من الضروري أن نُعيد التفكير في هذا العُرف الموروث؛ إذ لم يعد التقاعد في الستين أو الخامسة والستين موافقاً لمتطلبات العصر ولا منسجماً مع واقعه.
الكثافة السكانية للفئة العمرية فوق الستين وتأثيرها على الاقتصاد
شهد العالم خلال العقود الأخيرة ارتفاعاً غير مسبوق في أعداد السكان الذين تجاوزوا سن الستين، لتصبح هذه الفئة من أسرع الشرائح العمرية نموّاً على مستوى العالم، في ظاهرة تُعرف بـ"الشيخوخة السكانية"، التي تمثل تحدياً حقيقياً يُلقي بظلاله على الأنظمة الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.
وفي بعض الدول، فاقت أعداد كبار السن أعداد الأطفال حديثي الولادة، مما أحدث اختلالًا في توازن القوى العاملة، وخللاً في ميزان العرض والطلب داخل سوق العمل، فأثّر ذلك بشكل مباشر على حجم الإنتاجية الوطنية. بالإضافة إلى ذلك، تزداد الأعباء المالية الملقاة على كاهل الأنظمة الصحية والخدمات الاجتماعية، نتيجة تزايد أعداد المتقاعدين، مما يشكل ضغطاً متنامياً على الموارد الاقتصادية.
لقد أكدت دراسات اقتصادية رصينة أن ارتفاع الكثافة السكانية لفئة كبار السن دون إدماج فعّال لهم في سوق العمل يشكل قيداً حقيقياً أمام تحقيق معدلات نمو اقتصادي مستدام، ويضعف القدرة التنافسية للدول، لا سيما في القطاعات التي تعتمد على تراكم الخبرات والمهارات القيادية.. ومن بين هذه الدراسات، برزت دراسة جامعة أكسفورد لعام 2019 التي بيّنت أن شيخوخة السكان في 22 دولة من دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) تؤدي إلى تباطؤ نمو الناتج المحلي الإجمالي بمعدل 0.64 نقطة مئوية سنوياً، نتيجة تناقص نسبة السكان في سن العمل.
وأوصت الدراسة بضرورة تبني سياسات «الشيخوخة النشطة» التي تتيح دمج كبار السن بفاعلية في سوق العمل، لتعزيز القوة الاقتصادية ودعم النمو المستدام.
وللوقوف على مدى صحة هذا الاتجاه، نستعرض في ما يلي أهم العوامل التي تدعم ضرورة إعادة النظر في مفهوم التقاعد التقليدي
أولا: ارتفاع متوسط الأعمار
تشير الإحصاءات الحديثة إلى أنّ متوسط أعمار البشر شهد ارتفاعاً ملحوظاً خلال العقود الأخيرة، متجاوزاً في كثير من الدول المتقدمة عتبة الثمانين عاماً. ومع تطوّر الرعاية الصحية، وازدياد الوعي بأساليب الحياة السليمة، بات الإنسان اليوم قادراً على العطاء والعمل لفترةٍ أطول وبجودةٍ أعلى. ومن ثمّ، فإنّ إحالة الفرد إلى التقاعد عند الخامسة والستين تعني استبعاده من سوق العمل وهو في ذروة عطائه، وقمّة نضجه الفكري والمهني، وهو ما يستدعي إعادة النظر في هذا المفهوم التقليدي للتقاعد.
ثانيا: الأعباء الاقتصادية لأنظمة التقاعد
أضحى الإبقاء على سن التقاعد الحالي عبئاً متزايداً يُثقل كاهل صناديق التقاعد الحكومية والخاصة، في ظلّ تزايد أعداد المتقاعدين مقارنةً بعدد العاملين. ومع امتداد أعمار المتقاعدين وتزايد سنوات استحقاقهم للمعاش، تجد الحكومات نفسها أمام التزام مالي متنامٍ يستنزف الموارد ويُهدد استدامة تلك الصناديق. ومن هنا، شرعت العديد من الدول في مراجعة سياساتها التقاعدية، فرفعت سن الإحالة إلى التقاعد، أو جعلته اختياريّاً مرهوناً بالحالة الصحية وكفاءة العطاء والإنتاجية، بما يضمن التوازن بين حق الفرد ومتطلبات الاقتصاد
ثالثا: تحولات طبيعة العمل
لم تعد غالبية الأعمال في عصرنا الحاضر قائمة على الجهد البدني الشاق كما كانت في الماضي، بل أضحت ترتكز على المهارات الذهنية والخبرات المتراكمة.. ولذا، فإنّ الموظف أو العامل في سن الخامسة والستين غالباً ما يمتاز بحكمةٍ أعمق، ورؤيةٍ أوسع، واتزانٍ أكبر في اتخاذ القرار مقارنةً بنظرائه من الأجيال الأصغر. وإبعاده عن ساحة العمل في هذا العمر لا يعني إلا خسارة المجتمع طاقاتٍ ثمينة، وخبراتٍ نادرة كان يمكن توظيفها في مجالات الإشراف، والإرشاد المهني، ونقل الخبرات للأجيال الصاعدة.
رابعا: الرغبة في حياة نشطة بعد التقاعد
كشفت دراسات اجتماعية عميقة أن شريحة واسعة من المتقاعدين تعاني من فراغ نفسي واجتماعي بعد خروجهم من سوق العمل، حيث يفقدون جزءاً من هويتهم وارتباطهم بالحياة العملية التي طالما شكّلت جوهر وجودهم. وفي ظل ارتفاع مستويات التعليم، وانتشار ثقافة العمل الحر، وتنامي المشاريع الخاصة، باتت فئة كبيرة من كبار السن تتطلع إلى البقاء ضمن دائرة الإنتاج والمشاركة المجتمعية، رافضةً الانزواء والتقاعد التام.
شهدت السنوات الأخيرة تحوّلات ملحوظة في سياسات التقاعد لدى عدد من الدول المتقدمة، التي أعادت النظر في حدود السن التقليدية. ففي اليابان، التي تُعدّ من أكثر الدول تقدّماً في معدلات الشيخوخة، بادرت الحكومة إلى تشجيع مواطنيها على الاستمرار في العمل بعد الخامسة والستين، مستفيدةً من خبراتهم الطويلة. وعلى ذات المنوال، رفعت ألمانيا وفرنسا سن التقاعد تدريجيّاً، لتصل في بعض القطاعات إلى السبعين عاماً، في محاولة لتحقيق التوازن بين احتياجات الاقتصاد ومتطلبات السكان المتقدمين في العمر.
خاتمة
ومن هنا، صار التمسك بسن التقاعد التقليدي عائقاً جليّاً أمام استثمار الطاقات الحيّة لهذه الفئة النشطة نسبيّاً، كما يُضاعف الأعباء المالية الناجمة عن استمرار صرف المعاشات وتوفير الخدمات الصحية. على العكس، يمكن لهذه الفئة أن تتحوّل إلى رافدٍ فاعل ومتوازن ضمن منظومة الإنتاج الوطني، يعزّز التنمية الاقتصادية والاجتماعية على حد سواء.. فالعالم اليوم يطالب بتشريعات مرنة تواكب ارتفاع متوسط الأعمار، وتراعي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والنفسية للفرد، وتأخذ في الحسبان الكثافة السكانية المتزايدة لفئة كبار السن وتأثيرها على الاقتصاد.
ومن الحكمة أن يُمنح الإنسان حق الاختيار في توقيت تقاعده، وفقاً لقدرته الصحية ورغبته الشخصية، بعيداً عن قيود رقمية فرضتها ظروف تاريخية لم تعد صالحة للعصر الراهن.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.