تفيد نظرية العرض والطلب بأن الندرة تزيد من قيمة وسعر المنتج، وفي الولايات المتحدة استغل المهاجرون العرب، لا سيما السيدات، حاجة المغتربين وحنينهم لبعض المنتجات والأطعمة العربية خاصة في الأعياد والمناسبات، وحولوا هذه الحاجة إلى نشاط تجاري عبر الإنترنت، فهناك عشرات الصفحات على الإنترنت لبيع كل ما يشتهيه أي مغترب بأسعار لم يتخيلها العرب أنفسهم في بلدانهم، حينها فقط وبسبب عامل الندرة يٌصبح بن «عبد المعبود» المباع على تلك الصفحات أغلى وأقيم من كوب قهوة «ستارباكس»، فما أسرار هذا النشاط الضخم في الولايات المتحدة؟

الأمر لا يقتصر على صفحة على مواقع التواصل الاجتماعي، بل شبكة كبيرة مترابطة تتألف من مراحل عدة، بداية من الشركات الصغرى التي تشحن المنتجات من البلد الأم لأصحاب الصفحات والشركات الصغرى في الولايات المتحدة، إلى أصحاب المجموعات الكبرى على الفيسبوك الذين يسمحون لأصحاب تلك الصفحات بعرض منتجاتهم عبر خاصية البث المباشر بنحو 40 دولاراً في الساعة.

فاطمة وتجارة الأعياد

أنعشت جائحة كورونا سوق التجارة عبر الإنترنت للعرب بالخارج، فالعديد من الصفحات أُنشئت أعقاب الإغلاق، ويوجد نحو مليون ونصف المليون عربي مهاجر في الولايات المتحدة، منهم ما يقرب من ربع مليون عراقي و210 آلاف مصري، ما يفسر سبب ريادة وكثرة الصفحات التي تبيع المنتجات المصرية.

وبجانب المصريين، تشكل لبنان وسوريا والأردن وفلسطين أكبر الجاليات العربية على التوالي.

تحكي فاطمة -وهي مصرية في منتصف الثلاثينيات- أنها هاجرت مع أسرتها في التاسعة من عمرها والتحقت بالمدرسة في الولايات المتحدة بولاية نيوجيرسي، لكنها فضلت العمل في مجالات شتى على الالتحاق بالجامعة، ثم بدأت طريقها لفتح مشروعها الخاص، وبعد عدة محاولات باءت بالفشل قررت فاطمة شراء «زينة رمضان» وبيعها على إحدى المجموعات على فيسبوك، ثم اشتهرت بعد ذلك باسم «باكابوزا»، وهو اسم العلامة التجارية لمحلها بولاية نيوجيرسي الذي تعرض منه منتجاتها على الإنترنت.

ويمثل شهر رمضان وعيدا الفطر والأضحى أوقات ذروة لبيع المنتجات العربية على الإنترنت بحسب فاطمة، فالبيوت العربية في هذه الأوقات تبحث عن طيف رائحة الوطن، من الديكور العربي، لزينة رمضان، للملابس العربية كالعباءات النسائية والكعك المصري، فضلاً عن الفسيخ والرنجة وهي أنواع من الأسماك المملحة تشتهر بها مصر، وتضيف فاطمة أنها تحاول توفير هذه الأشياء للعرب الذين لا يجدونها هنا، وبأسعار في متناول اليد مقارنة بالسوق.

تعول سيدات عربيات على حنين المغتربين لأوطانهم لتعزيز تجارتهم عبر الإنترنت

لم تكتفِ فاطمة بذلك، بل بدأت بتصميم شعار خاص بها بصورتها، وعكفت على تصميم بعض الأشكال المختلفة للفوانيس لتزيين المنزل أو للأطفال، وإرسال هذه التصميمات لمصانع مصرية لإنتاجها وشحنها للولايات المتحدة، ثم توسعت في عملها في رمضان هذا العام واستوردت شاحنتين واحدة من مصر وأخرى من الصين.

أما في غير المواسم، فتعمل فاطمة في المفروشات ومستلزمات المنازل وغيرها، كما تجذب المشترين بالعروض والتخفيضات وحس الفكاهة.

وتقول فاطمة إن المنافسة هنا شرسة بين رواد الأعمال العرب بسبب انتشار صفحات التجارة عبر الإنترنت بعد الجائحة، ومع ذلك كانت فاطمة من ضمن المُشاركات في يوم المنتجات المصرية في الولايات المتحدة الذي نظمته مؤسسة مصرية هناك.

الندرة تزيد الأسعار

لم تقف أفكار الأعمال الصغيرة للعرب عند هذا الحد، بل استغلت بعض النساء موهبتهن في طهي الأطباق العربية، خاصة الحلويات وطهي الطعام بالمنزل، وبيعها عبر الإنترنت سواء للطلبة أو للرجال المغتربين، أو للأسر التي تحتاج كميات طعام كبيرة في العزائم، خاصة في الولايات والمدن التي ترتفع فيها نسبة العرب مثل نيويورك ونيوجيرسي ولوس أنجلوس، وأبرز هذه الصفحات هي من المطبخين المغربي والمصري.

وترتفع أسعار هذه المنتجات مقارنة بالبلد الأم نظراً لعوامل عدة، منها ندرة المنتج وضرائب الشحن الدولي ونسبة الربح للبائع، فعلى سبيل المثال يبلغ متوسط سعر كيلو الكعك المصري وكيلو (الرنجة-السمك المملح) 30 دولاراً بنسبة ترتفع 75 في المئة على سعره في البلد الأم، كما يبلغ سعر بعض الأطباق الرئيسية المصرية أو المغربية من 30 إلى 60 دولاراً بنسبة تزيد على 80 في المئة.

مصدر دخل جانبي مدفوع بالطلب

هاجرت رانيا سلطان، وهي مدربة مهنية مصرية في أوائل الأربعينيات، واستقرت في ولاية كاليفورنيا مع أسرتها، حصلت على بكالوريوس في علوم التواصل ودبلومة في التسويق الرقمي من جامعة كاليفورنيا، وبعد تركها عملها لرعاية أولادها الثلاثة، عادت لتبحث عن طريقة للعمل من المنزل، وبدأت شركة صغيرة لتعليم السيدات أساسيات التسويق الإلكتروني للمشاريع المُبتدأة، وكيفية توسيع نطاق المشروع.

فالبحث عن مصدر دخل إضافي خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة للأسر العربية في الولايات المتحدة، فضلاً عن البحث عن عمل من المنزل كانا من أهم الدوافع للسيدات اللاتي دربتهن رانيا، بجانب مساعدتهن للبحث عن أفضل منتج لبيعه من البلد الأم، وتضيف رانيا أن السوريات والفلسطينيات معروفات في الولايات المتحدة بتجارة العباءات النسائية، أما اليمنيات والعراقيات فيشتهرن بتجارة التوابل.

بجانب ذلك، تحتاج الأسر العربية للديكور العربي الإسلامي، كما يحتاج الأطفال بعض المشغولات من بلدانهم كالتماثيل الفرعونية المصرية للمشاركة في الأنشطة المدرسية والتبادل الثقافي، والمشغولات الذهبية، فضلاً عن الأشخاص الذين يصنعون بعض المنتجات اليدوية، وبسبب وجود الحاجة ولدت أفكار المشاريع كما تؤكد رانيا.

لكن من أبرز المخاطر التي قد يقع فيها أصحاب المشاريع الصغيرة، هي عدم معرفتهم بالقوانين الأميركية، فيجب أن يكون للشخص رقم ضريبي لدفع الضرائب السنوية، وفي حالة فتح شركة يجب أن يكون للمالك حساب بنكي باسم الشركة، وإلا يمكن أن يتعرض لمساءلة قانونية توقف جميع أوراقه بالبلد.

الملابس النسائية سوق رائجة

على جانب آخر، تشتهر بلدان المغرب العربي والأردن وفلسطين ببيع وتوفير ملابس المحجبات ومستلزماتها، خاصة العباءات المطرزة للمناسبات وفساتين السهرة المناسبة لطبيعة العالم العربي المحافظة.

بدأت ألما البقلوتي، وهي تونسية في منتصف الثلاثينيات استقرت بولاية تكساس وحصلت على بكالوريوس في التسويق الإلكتروني، صفحتها منذ عام كعمل إضافي، وتقول إنها ظلت تراقب السوق والصفحات المماثلة قرابة العامين حتى أتقنت التجارة، كما اتخذت ألما هذا المشروع وسيلة للتواصل مع عرب مثلها وشغل جل وقتها لأنها تعيش في مدينة صغيرة تبعد عن المناطق التي يسكن بها الكثير من العرب مثل دالاس بالولاية نفسها.

كان دافع ألما الأساسي لهذه التجارة لمّ شمل عائلتها؛ هي ووالدتها بتونس وأخويها بفرنسا والكويت، فكل منهم يختار معها المنتجات والملابس قبل شحنها إليها في الولايات المتحدة، لتتحول المحادثات بين أفراد العائلة في المناسبات فقط إلى محادثات عمل يومية ساعدت ألما على التميز في انتقاء الملابس بعناية.

وتقول ألما إن هذه المنتجات التي باتت متوفرة في الولايات المتحدة عن ذي قبل وفرت على المهاجرين عناء شراء مستلزماتهم من بلدانهم أثناء زيارة عائلاتهم وحملها إلى أميركا، كما أسهمت في زيادة دخل الأم العربية التي لا تجد فرصة عمل مناسبة لها في الغربة.

وبالنسبة للعباءات الأكثر مبيعاً، توضح ألما أن العباءات الأردنية والفلسطينية تصلح للمناسبات الخاصة، بينما يُقبل العملاء على الملابس القطنية المصرية للاستخدام اليومي، ولفتت إلى أن متوسط أسعار الملابس المنزلية يتراوح بين 25 و30 دولاراً، بينما يصل سعر العباءات المستخدمة خارج المنزل إلى 60 دولاراً، أما عباءات المناسبات والأعياد فسعرها من 90 إلى 150 دولاراً.

وهكذا، ففنجان قهوة صباحية اعتدت عليه، أو طبق مفضل ألفته في الأعياد والمناسبات، أو ملبس ممُيز من ثقافتك ترتاح فيه، أو استحضار صورة من ديكور أنسته في بلدك، قد يكلفك الكثير في الغربة، لكنه على الأقل أضحى متوفراً بفضل سيدات عربيات طرقن كل الأبواب للبحث عن مصدر دخل.