انتخابات بولندا.. بين رؤيتين متضادتين واقتصاد لا يعرف التباطؤ

انتخابات رئاسية حادة في بولندا بين الليبراليين والقوميين، لكن الاقتصاد يواصل صعوده. (شترستوك)
انتخابات بولندا
انتخابات رئاسية حادة في بولندا بين الليبراليين والقوميين، لكن الاقتصاد يواصل صعوده. (شترستوك)

تُجري بولندا واحدة من أكثر الانتخابات الرئاسية انقساماً منذ تحولها إلى الديمقراطية، في سباق متقارب بين رافال تشاسكوفسكي، المدعوم من رئيس الوزراء دونالد توسك، والمرشح المحافظ كارول ناوروكي، الذي يحظى بتأييد حزب «القانون والعدالة» اليميني القومي.

لكن على الرغم من الضجيج السياسي الحاد، يبدو أن الاقتصاد البولندي يمضي بخطى واثقة بعيداً عن ضوضاء المناظرات الحزبية.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1738926244764-0'); });

نمو بلا انقطاع منذ الانضمام للاتحاد الأوروبي

منذ انضمامها للاتحاد الأوروبي عام 2004، شهدت بولندا نمواً استثنائياً في ناتجها المحلي الإجمالي.

وبحسب بيانات منشورة من منصة «أور وورلد إن داتا»، تضاعف نصيب الفرد من الناتج ليبلغ أكثر من 42 ألف دولار سنوياً، بعدما كان في حدود 21 ألفاً فقط وقت الانضمام.

googletag.cmd.push(function() { googletag.display('div-gpt-ad-1739447063276-0'); });

هذا المسار لم يتأثر بالأزمات الكبرى، إذ نجت بولندا من الركود العالمي في 2008، واجتازت جائحة كوفيد دون انكماش طويل الأمد، باستثناء تراجع بسيط في 2020.

وفي عام 2025 وحده، من المتوقع أن ينمو الاقتصاد بنسبة 3.3 في المئة، وهو ما يتجاوز أداء معظم دول أوروبا الغربية، ومنها بريطانيا التي لا تتجاوز نسبة نموها 1 في المئة وفقاً لتقديرات صحيفة ذا تلغراف البريطانية.

رأس مال بشري من الغرب إلى الشرق

خلال العقدين الماضيين، هاجر أكثر من مليون بولندي إلى المملكة المتحدة بحثاً عن فرص عمل بعد الانضمام للاتحاد الأوروبي.

لكن المشهد بدأ يتغير، مع عودة عشرات الآلاف من الشباب إلى بلادهم، مدفوعين بفرص اقتصادية أفضل، وتراجع مستوى المعيشة في بريطانيا، خاصة بعد البريكست.

وارسو تعيد تعريف المدينة الأوروبية

أحياء مثل زوليبورز في شمال وارسو باتت تجذب بولنديين أثرياء ومهاجرين عائدين في ظل طفرة عقارية حضرية تتنوع فيها أسعار الشقق بين 600 ألف و1.9 مليون زلوتي بولندي، أي ما يعادل ما بين 120 و375 ألف جنيه إسترليني.

كما تشهد العاصمة تطوراً تكنولوجياً وتجارياً جعلها موطناً لشركات عالمية مثل سي دي بروجكت رِد، مطور سلسلة ألعاب «ذا ويتشر»، التي اعتُبرت نموذجاً ناعماً لصعود بولندا على الساحة الثقافية العالمية.

دفاع غير مسبوق.. واقتصاد يمتص التكاليف

منذ الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير شباط 2022، استجابت بولندا بسرعة عبر فتح حدودها أمام أكثر من 9 ملايين لاجئ، وبدء إعادة تسليح جيشها بوتيرة متسارعة.

وفقاً لتقارير صحفية، ارتفع الإنفاق الدفاعي من 2.7 في المئة من الناتج المحلي في 2022 إلى 4.7 في المئة هذا العام، ليقترب من هدف 5 في المئة الذي كان يبدو قبل سنوات حلماً بعيد المنال.

حتى الآن، قدمت بولندا 47 حزمة مساعدات عسكرية لأوكرانيا، ما عزّز مكانتها حليفاً محورياً في الجناح الشرقي لحلف الناتو.

ما يثير الاهتمام أن هذا الإنفاق الكبير لم يضعف النمو الاقتصادي، بل تم تمويله دون المساس بالاستقرار المالي، بفضل عجز منخفض، ودَين عام لا يتجاوز 55 في المئة من الناتج المحلي، وهو من أدنى المعدلات في أوروبا.

ضرائب منخفضة وسياسات مالية منضبطة

ترتكز قوة بولندا الاقتصادية على قواعد كلاسيكية للنمو؛ ضريبة دخل قصوى تبلغ 32 في المئة فقط، وضريبة شركات 19 في المئة تنخفض إلى 9 في المئة للمؤسسات الصغيرة.

وقد حافظت البلاد على عملتها الوطنية «الزلوتي»، ما منحها هامش تحرك نقدي خارج قيود منطقة اليورو، رغم أنها عضو في السوق الأوروبية الموحدة. حتى رئيس الوزراء الحالي دونالد توسك، رغم خلفيته الأوروبية، لا يبدو متحمساً للانضمام للعملة الموحدة في المدى القريب.

التحديات القادمة.. ديموغرافيا وموقف من بروكسل

رغم هذا المشهد المتفائل، هناك تحديات ديموغرافية مقلقة؛ فقد تراجع معدل الخصوبة من 1.48 إلى 1.26 بين عامي 2017 و2024، بحسب بيانات من القطاع الصناعي، ما يشير إلى خطر نقص في الأيدي العاملة بعد عقدين.

إضافة إلى ذلك، تقترب بولندا من أن تتحول من دولة مستفيدة من أموال الاتحاد الأوروبي إلى دولة مساهمة صافية، ما قد يثير تساؤلات سيادية لدى فئات متزايدة من البولنديين، وهو ما يشكّل قلقاً سياسياً لبعض التيارات القومية التي تقارن الوضع بما كانت عليه بريطانيا قبل البريكست.

بين تشاسكوفسكي وناوروكي.. الاقتصاد يربح في الحالتين

في خضم معركة رئاسية توصف بأنها «استفتاء على الهوية»، تبرز مفارقة لافتة، وهي الفارق بين المرشحين ضئيل في السياسة الاقتصادية.

كلاهما يدعم البقاء في الاتحاد الأوروبي دون الدخول في اليورو، وكلاهما يرفض استقبال موجات هجرة جماعية غير ماهرة، وكلاهما ملتزم بضبط العجز والضرائب.

الاختلاف الأكبر يبقى في الشكل والرؤية الثقافية والاجتماعية.. تشاسكوفسكي أقرب لأوروبا الغربية، يدعو إلى توسيع الحريات المدنية، بينما ناوروكي يستوحي خطابه من ترامب وحركة «MAGA»، ويعد بإعادة الاعتبار للقيم البولندية التقليدية.

قد تعيش بولندا مشهداً سياسياً مشحوناً، ولكن اقتصادها، بمقوماته الصلبة وكوادره العائدة وتوازنه النقدي والمالي، يبدو ماضياً في طريقه نحو أن يصبح أحد أكبر اقتصادات أوروبا، كما توقعت ذلك عدة تقارير هذا الأسبوع.