في قاعةٍ فخمةٍ من رخام وزجاج في بروكسل، تعلو همسات المصرفيين وسط ضجيج الأرقام وأسواق المال، حيث اتجهت الأنظار كلّها نحو سيدة أنيقة ترتدي سترة رمادية فاخرة يُزيّنها بروش فضي بسيط، إنها كريستين لاغارد المرأة التي أصبحت صوتاً وازناً في الاقتصاد العالمي، وهي تخطو بثقة تليق بمَن خبرت أعاصير المال والسياسة.
لكن قبل أن تصل إلى رأس البنك المركزي الأوروبي، وقبل أن تُدير دفة صندوق النقد الدولي، كانت تلك الفتاة القادمة من مدينة لوهافر الساحلية في فرنسا، تحلم بأن تصبح سبّاحة محترفة، لقد تدربت على السباحة التزامنية، وأتقنت فن التنفس الطويل تحت الماء، قد لا تكون مارست الرياضة طويلاً، لكنها تعلمت ما هو أهم: ضبط النفس والإيقاع، وتلك مهارة نادرة في عواصف المال.
وُلِدت كريستين لاغارد عام 1956، في أسرة أكاديمية؛ والدها كان أستاذاً في اللغة الإنجليزية ووالدتها مدرسة للآداب،. ترعرعت في بيئة تحفّز التفكير النقدي والاعتماد على النفس، وعندما توفي والدها وهي في سن المراهقة، وجدت نفسها تتحمّل المسؤولية مبكراً، فعملت مربية أطفال في الولايات المتحدة لدعم دراستها، لم تكن تلك التجربة سوى أول دروسها في التفاوض العملي والتعامل مع التحديات.
دخلت عالم القانون من بوابته الفرنسية، لكنها سرعان ما شقت طريقها نحو الميدان الدولي، لتلتحق بمكتب المحاماة الشهير «بيكر أند ماكينزي»، حيث صعدت سلم القيادة حتى أصبحت أول امرأة تتولى رئاسة المكتب على مستوى العالم عام 1999، لم تكن المرة الأخيرة التي تحفّر فيها اسمها كأول امرأة في موقعٍ قياديّ ذكوريّ.
حين استدعتها السياسة الفرنسية عام 2005، عيّنت وزيرة للتجارة ثم وزيرة للزراعة وأخيراً وزيرة للاقتصاد في حكومة نيكولا ساركوزي، كانت أول امرأة تتولى هذا المنصب في تاريخ الجمهورية.. لم تكن تحظى بدعمٍ واسعٍ داخل حزبها، لكن هدوءها الاستثنائي ولباقتها باللغتين الفرنسية والإنجليزية، جعلا منها صوتاً مقبولاً حتى عند الخصوم.
في عام 2011، حين انفجرت أزمة الديون الأوروبية، كانت لاغارد على وشك دخول المشهد العالمي من أوسع أبوابه، تم ترشيحها لرئاسة صندوق النقد الدولي خلفاً لدومينيك ستروس كان، الذي أطاحت به فضيحة جنسية.
تولّت المنصب وسط عاصفة من الشكوك، ليس فقط لأنها امرأة، بل لأنها سياسية وليست خبيراً تقليدياً في الاقتصاد، لكن سرعان ما أثبتت لاغارد أنها ليست بحاجة إلى أن تكون «اقتصادية كلاسيكية» لتفهم آليات السوق.
تبنّت لاغارد خطاباً أكثر إنسانية داخل الصندوق تحدثت عن التفاوت الاجتماعي، ودعت إلى إصلاحات تمس الفئات المهمّشة، وتبنّت لغة أقرب إلى الناس من النخب.. لم يكن ذلك كافياً لتجنب الانتقادات، لكنها نجحت في إعادة بعض من صورة الصندوق التي تضررت كثيراً خلال الأزمات المالية.
وفي عام 2019، دخلت فصلاً جديداً من روايتها: رئاسة البنك المركزي الأوروبي. المهمة هذه المرة كانت أكثر تعقيداً، مع أزمة كورونا التي شلّت الاقتصاد العالمي، ثم تداعيات الحرب الروسية الأوكرانية، وتضخم غير مسبوق هزّ أسواق المال.
واجهت لاغارد تلك المرحلة بصرامة وهدوء، رافضة الانجرار إلى ضغوط السوق أو الابتزاز السياسي.. قراراتها في رفع أسعار الفائدة لم تكن دائماً شعبية، لكنها عبّرت عن فلسفتها الراسخة: «الاستقرار قبل الشعبية».
بعيداً عن الاقتصاد، لاغارد شخصية متفرّدة، تهوى ركوب الخيل، وتحب الأزياء الراقية دون أن تفقد مظهر الجدية، كذلك ترفض استخدام الهاتف المحمول في الاجتماعات، وتحرص على الإصغاء بعيونها كما بأذنيها، لا ترفع صوتها، لكنها حين تتكلم، ينصت لها الجميع.
اليوم، بعد عقود من الحضور الهادئ والصلب، لا تزال كريستين لاغارد تمثّل معادلة نادرة مزيج من الأناقة الفرنسية والعقلانية الألمانية، ومن البراغماتية الأميركية والنفس الإصلاحي الأوروبي، ربما لهذا السبب لم تُوصَف يوماً بأنها «اقتصادية»، بل بأنها «صوت الحكمة في عصر التوترات».
ولعلّ أعظم إنجازاتها لا يكمن في الأرقام أو السياسات، بل في كونها جعلت من الاقتصاد خطاباً يفهمه الجميع، ومن القيادة فعلاً أنثوياً بامتياز.