لطالما شكّلت العلاقة عبر الأطلسي حجر الزاوية في النظام العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية، لكنها اليوم تهتز تحت وقع المتغيرات العاصفة؛ تصدّع في الثقة، وتباين في المصالح، وملامح قطيعة تلوح في الأفق.. فهل بدأ فعلاً عصر الانفصال بين أوروبا والولايات المتحدة؟ اقتصادياً؟ سياسياً؟ بل حتى عسكرياً؟
تحولات جذرية في المشهد العالمي:
في ولايته الأولى، رفع الرئيس ترامب شعار "فكّ الارتباط مع الصين"، سعياً إلى إنعاش الاقتصاد الأميركي وخلق فرص عمل على حساب خصمٍ شرس، أما اليوم، وفي ولايته الثانية، فيبدو أنه يوسّع دائرة الانفصال لتطول حلفاء واشنطن التاريخيين أنفسهم، في خطوة فاجأت المراقبين وأربكت التوازنات.
تنتهج الإدارة الأميركية الجديدة مساراً أكثر انكفاءً: إغلاق الأسواق، التراجع عن دور "الضامن العالمي للأمن"، وتقليص أدوات القوة الناعمة من بحوث ومساعدات وثقافة، التي طالما استخدمتها واشنطن لتشكيل النظام الدولي على صورتها.
حتى وقت قريب، كان مجرّد التفكير في انسحاب الولايات المتحدة من قلب أوروبا الغربية ضرباً من المستحيل؛ فالحضور الأميركي هناك لم يكن فقط ضماناً للأمن، بل ركيزة للنفوذ العالمي، فالمنطق الاستراتيجي واضح: التحالفات المتينة تحقق ميزة نسبية؛ تجارة أقوى، وأمناً أشمل، وردعاً فعّالاً للقوى الصاعدة.
التباعد الاقتصادي.. بوادر الانفصال تلوح في الأفق
تحت سطح العلاقات العابرة للأطلسي، تتصاعد مؤشرات التباعد الاقتصادي بين أوروبا والولايات المتحدة، معلنةً عن شرخ قد يصعب ترميمه.
نزاعات تجارية تكسر القواعد القديمة: حين فرضت إدارة ترامب رسوماً جمركية على السلع الأوروبية —لا سيما الصلب والألومنيوم— كان ذلك بمثابة ضربة قاسية لمبادئ التجارة الحرة التي صاغت العلاقة الاقتصادية بين الطرفين لعقود، ورغم التخفيف الجزئي لتلك الرسوم لاحقاً، فإن نار التوترات لا تزال مشتعلة تحت رماد "الاختلالات" والتدابير الحمائية.
الضرائب الرقمية.. قنبلة خلاف جديدة: سعي أوروبا لفرض ضرائب على عمالقة التكنولوجيا الأميركية لم تمر مرور الكرام؛ فقد اعتبرتها واشنطن "تمييزاً صريحاً"، ولوّحت بردٍ انتقامي من خلال تعريفات جمركية تهدد بتصعيد المواجهة الاقتصادية.
سياسة الطاقة.. خط "نورد ستريم 2" يعمّق الانقسام: أدت المناهج المتباينة في سياسة الطاقة، خاصة في ما يتعلق بخط أنابيب "نورد ستريم 2"، إلى انقسامات كبيرة، فقد عارضت الولايات المتحدة خط الأنابيب باستمرار، حيث ترى فيه تهديداً للأمن الأوروبي لكونه يزيد من اعتماد أوروبا على الغاز الروسي، بينما تعتبره بعض الدول الأوروبية مصدراً حيوياً وأقل تكلفة لأمن الطاقة.
تباين الأولويات الاقتصادية: في حين تواجه المنطقتان تحديات اقتصادية متشابهة، إلا أن أولوياتهما ونهجهما في معالجتها تختلف أحياناً، على سبيل المثال، تميل أوروبا إلى إعطاء الأولوية للرعاية الاجتماعية والاستدامة البيئية، بينما تركز الولايات المتحدة غالباً على تحرير القيود والنمو الاقتصادي.
التباين السياسي.. رؤى متباعدة وشرخ يزداد اتساعاً
بين ضفّتي الأطلسي، لم يعد الخلاف مجرّد تباين في الآراء، بل بات يعكس رؤى استراتيجية متباينة تشكّل ملامح نظام عالمي جديد.
التعددية مقابل الأحادية: بينما تتمسّك أوروبا بالتعاون الدولي والعمل الجماعي، تنزلق الولايات المتحدة أكثر فأكثر نحو الأحادية، فتنكفئ عن اتفاقيات كبرى كاتفاق باريس للمناخ والاتفاق النووي الإيراني، في رسالة واضحة: "أميركا أولاً" ولو على حساب الشراكة.
تضارب في فهم التحديات العالمية: من أوكرانيا إلى غزة، ومن قضايا السلام في الشرق الأوسط إلى ملفات الهجرة والإرهاب والمناخ، تتباين مواقف واشنطن وبروكسل بشكل لافت، ليس فقط في الوسائل، بل في الجوهر ذاته؛ من يجب أن يتدخل؟ كيف؟ ولماذا؟
الشعبوية.. عدوى عابرة للقارات: صعود التيارات الشعبوية والقومية في كلا الجانبين يفاقم الانقسام، الداخل المشحون يُترجم إلى سياسة خارجية أكثر توتراً، ويغذّي خطاباً يفضّل الانعزال على التضامن.
تآكل الثقة.. أزمة غير معلنة: أظهرت استطلاعات الرأي العام تراجعاً كبيراً في الثقة بين الولايات المتحدة وأوروبا، لا سيما في أعقاب ولاية ترامب الثانية، أوروبا لم تعد ترى في واشنطن الحليف الثابت، وأميركا لم تعد تُصغي لشركاء الأمس كما كانت.
الاعتبارات العسكرية.. هل بدأت أوروبا تشقّ طريقها نحو الاستقلال؟
في ميدان الأمن والدفاع، لم تعد أوروبا تكتفي بدور "التابع"، بل بدأت ملامح مشروع عسكري مستقل تتبلور، في ظل تراجع الثقة واحتدام الخلافات عبر الأطلسي.
تقاسم الأعباء.. مطلب أميركي دائم وخلاف مزمن: لطالما ضغطت الولايات المتحدة على حلفائها الأوروبيين لزيادة إنفاقهم الدفاعي لتحقيق هدف الناتو البالغ 2% من الناتج المحلي الإجمالي، ورغم إحراز بعض التقدم، لا تزال مسألة تقاسم الأعباء موضع خلاف.
مبادرات الدفاع الأوروبية.. مشروع يحبو أم بداية قطيعة: أثار تطوير مبادرات الدفاع الأوروبية، مثل صندوق الدفاع الأوروبي والتعاون الهيكلي الدائم (PESCO)، مخاوف في واشنطن من رغبة دفينة لدى الأوروبيين في تقليص اعتمادهم الأمني على الولايات المتحدة، وربما رسم طريق بديل يُعيد توزيع مراكز القوة.
الاستقلال الاستراتيجي: منذ تولي ترامب الرئاسة في يناير الماضي، اكتسب شعار "الاستقلال الاستراتيجي" الأوروبي زخماً غير مسبوق، فلم يعد مجرد خطاب نظري، بل تحوّل إلى دعوة لتشكيل سياسة خارجية ودفاعية أوروبية مستقلة، ورغم أنه لا يعني بالضرورة انفصالاً تاماً عن الولايات المتحدة، فإنه يعكس رغبة في استقلال أوروبي أكبر وقد يكون بداية لفك الارتباط.
اختلاف الأولويات الأمنية: قد تختلف الأولويات الأمنية لأوروبا والولايات المتحدة، حيث تركز أوروبا بشكل أكبر على التهديدات الإقليمية، مثل خطر روسيا على دول شرق أوروبا، بينما تُركّز واشنطن على تحديات أوسع نطاقاً تمتد من بحر الصين الجنوبي إلى الشرق الأوسط، هذا التباين يعمّق الشرخ الاستراتيجي ويفتح الباب أمام مسارات أمنية متباينة.
تداعيات الانفصال:.. هل يكتب التاريخ نهاية العصر الأطلسي؟
ما بين التحولات المتسارعة والانقسامات المتنامية، يلوح في الأفق سيناريو غير مسبوق؛ فك الارتباط بين ضفتي الأطلسي، لكن لهذا الانفصال المحتمل تداعيات تتجاوز حدود أوروبا وواشنطن، وتمتد إلى النظام العالمي برمّته.
تفكك التحالف الغربي.. ضياع البوصلة المشتركة: انهيار العلاقة الاستراتيجية بين أوروبا والولايات المتحدة لا يعني مجرد خلاف سياسي، بل ضربة قوية لأسس التحالف الغربي، ما يضعف قدرته على التنسيق والتصدي للتحديات الكبرى من أمن جماعي إلى تغيّر مناخي.
زيادة عدم الاستقرار الجيوسياسي: كلما تراجع التماسك الغربي، ازدادت شهية الخصوم، الصين وروسيا، وأكثر، قد تجد في هذا التباعد فرصة ذهبية لملء الفراغ، وبسط نفوذها في ساحاتٍ كانت لوقت طويل تحت مظلة النفوذ الغربي.
التشرذم الاقتصادي: التنافر في السياسات الاقتصادية، والتصعيد في النزاعات التجارية، يهددان بخلق نظام اقتصادي مزدوج المسار؛ غرب منقسم وشرق صاعد، ما ينذر بتباطؤ عالمي واضطرابات في سلاسل الإمداد والأسواق المالية.
تحول في ديناميكيات القوة العالمية: إذا استمر الانفصال، قد نشهد تسارعاً في التحوّل التاريخي لمركز الثقل العالمي من الغرب إلى الشرق، لم يعد السؤال "هل؟"، بل "متى؟" و"بأي ثمن؟".
الخلاصة.. من الانفصال إلى إعادة تعريف الشراكة؟
رغم أن خيوط العلاقة عبر الأطلسي لم تنقطع بعد، فإن ملامح فك الارتباط باتت أكثر وضوحاً من أي وقت مضى، فما يجري اليوم ليس مجرد خلافات عابرة، بل تحوّل بنيوي تقوده الإرادة السياسية والمزاج الشعبي على جانبي المحيط، فمن نزاعات تجارية محتدمة، إلى تباينات في الأولويات السياسية، مروراً باختلافات استراتيجية في الأمن والدفاع، تتشابك هذه العوامل لتعيد رسم خريطة العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة، والسؤال الذي يفرض نفسه ليس ما إذا كان الانفصال قائماً، بل إلى أي مدى سيصل؟ هل نحن أمام نهاية "التحالف الذي لا يُمس"، أم بداية شراكة جديدة تُبنى على الواقعية والندية والتكيف مع عالم متغير؟ ما هو مؤكد أن العلاقة الأطلسية تعيش لحظة مفصلية، تتطلب مراجعة عميقة، وحواراً صريحاً، وتصوراً مشتركاً لمستقبل لا يهيمن فيه قطب واحد، بل تتعدد فيه المراكز وتتشابك فيه المصالح، قد لا يعود الماضي كما كان، لكن المستقبل لا يزال مفتوحاً لصياغة شراكة أكثر توازناً.. وأكثر صدقاً.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.