في العقد الجديد، لم تعد الجامعات وحدها من تصنع الناجحين، ولم تعد الشهادات الأكاديمية صكّ ضمانٍ للوظيفة، فالسوق العالمي يشهد تحولاً عميقاً كماً ونوعاً، يُعيد تعريف معايير التفوّق؛ إذ باتت الكفاءات العملية، لا الألقاب الدراسية، هي المعيار الذهبي الجديد للنجاح المهني.
في هذا المشهد المتسارع، لم يعد السباق نحو التميّز يُقاس بمن تخرّج أولاً، بل بمن يتعلّم أسرع، ويُطبق أذكى، ويتكيّف مع موجات التغيير المتلاحقة، فقبل عقدين فقط، كانت الشهادة الجامعية تذكرة شبه مؤكدة إلى سوق العمل؛ أما اليوم، فقد تبدّلت هذه القاعدة كلياً، وفقاً لتقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2024، ترى 69% من الشركات العالمية أن المهارات التطبيقية تتقدّم على الشهادات التقليدية عند التوظيف، مع تصاعد الطلب على كفاءات مثل: تحليل البيانات، والتفكير النقدي، والمرونة التكيفية.
وفي المقابل، يبيّن تقرير منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية 2024، أن المهارات المطلوبة في سوق العمل تتبدّل بوتيرة تفوق قدرة نظم التعليم التقليدية على اللحاق بها، إذ لا يتجاوز العمر الافتراضي للمهارات الرقمية المتخصصة ثلاثة إلى خمسة أعوام، ما يفرض ضرورة تحديث مستمر ينبغي أن يوضع في الحسبان.
لم يعد التعلّم يتمحور فقط حول تحصيل الدرجات بل أصبح يدور حول القدرة على مواصلة التعلّم مدى الحياة، ففي تقرير McKinsey Global Institute 2023، الذي أشار إلى أن 87% من قادة الشركات يعتبرون "المرونة في التعلّم" أهم سمة يجب أن يتحلى بها موظفو المستقبل، تليها الكفاءة في استخدام التقنيات الحديثة، بغض النظر عن المؤهل الأكاديمي.
وفي هذا الإطار، برزت منصات التعليم الإلكتروني بوصفها مسرّعات رئيسة لتجديد المهارات وصقلها، إذ كشف تقرير Coursera لعام 2024، عن نمو بنسبة 35% في عدد المسجلين بدورات المهارات الرقمية والقيادية مقارنة بالعام السابق، مع ارتفاع ملحوظ في الفئة العمرية التي تجاوزت 35 عاماً، ما يؤكد أن التعلم المستمر لم يعد خياراً، بل ضرورة.
وعلى صعيد آخر، تُبيّن دراسة حديثة لشركة Gartner أن الشركات الأكثر ابتكاراً هي التي تستثمر في منصات داخلية لإعادة تدريب موظفيها؛ إذ سجلت هذه الشركات زيادةً في الإنتاجية تفوق نظيراتها التي تفتقر إلى برامج تدريب مستمر بنحو 20%.
في العالم العربي بدأت ملامح التحوّل الرقمي تظهر، ففي السعودية دشنت وزارة الاتصالات وتقنية المعلومات برنامج "مهارات المستقبل" منذ 2020 الهادف إلى تمكين 100 ألف شاب وشابة بالمهارات الرقمية والمهنية خلال خمسة أعوام، أما في الإمارات فأُطلق عام 2021 "البرنامج الوطني للمبرمجين" الهادف إلى استقطاب وتدريب 100 ألف مبرمج، وتأسيس ألف شركة رقمية بحلول 2026.
بيد أن التحدي الحقيقي أبعد من إطلاق المبادرات؛ إذ يتطلب إعادة تشكيل الثقافة العامة حيال العمل والتعلّم مدى الحياة، فالمهارات لم تعد مجرد إضافة تُجمل الشهادة، بل صارت حجر الزاوية في بناء المكانة المهنية، واليوم تُختبر الكفاءات في بيئات عمل واقعية، وتعتمد كبرى الشركات نماذج التقييم بالنتائج، لا أوراق اعتماد أو سنوات خدمة وحدها.
ويبيّن تقرير للبنك الدولي أن الاقتصادات النامية التي تستثمر بفعالية في تعليم المهارات التطبيقية تُحقق نمواً يفوق نظيراتها المعتمدة على التعليم التقليدي وحده، بنحو 1.5 نقطة مئوية سنوياً في متوسط معدل الناتج المحلي الإجمالي، ما يؤكد أن الرهان على المهارات استثمار اقتصادي ذكي قبل أن يكون قراراً تعليمياً.
في عصر يتقلص فيه الفاصل بين ما نعرفه وما نحتاج إليه، لم يعد التفوق في سوق العمل حكراً على أصحاب الأسبقيات التعليمية، بل على القادرين على إعادة بناء ذواتهم كلما تغيرت المعطيات، فالاستثمار في المهارات لم يعد خياراً للتطوير المهني، بل أصبح ركيزة استراتيجية للبقاء، وللصعود في بيئة تنافسية لا تكافئ الشهادات، بل تُكافئ من يملك معرفة حيّةً تنتج أثراً ملموساً.
في سباق المستقبل، لا يُعنى بما تحقق بالأمس، بل بمن يُحدث الأثر ويصنع الفرق اليوم.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.