في أعماق الأرض، تختبئ معادن نادرة لا تُقدَّر بثمن، باتت اليوم محور صراعٍ خفيٍّ بين القوى العالمية، من الهواتف الذكية إلى أنظمة الدفاع المتقدمة، تشكّل هذه الموارد شريان الحياة للتقنيات الحديثة، وصارت ورقة استراتيجية في موازين السياسة والاقتصاد العالمي، فكيف بدأ هذا السباق؟ ولماذا تشتد المنافسة على هذه الكنوز النادرة؟
ما هي معادن الأرض النادرة؟
تتكوَّن العناصر الأرضية النادرة (REEs) من 17 عنصراً متقارباً في خصائصها الكيميائية، وتُعدّ حجر الأساس للتقنيات الحديثة وحلول الطاقة المتجددة، ورغم أن اسمها يوحي بالندرة المطلقة، فإنها موجودة بوفرة نسبية في قشرة الأرض؛ غير أن توزّعها المتناثر يجعل العثور على تركيزات اقتصادية مجدية أمراً نادراً، ويُضفي تعقيد عمليات استخراجها ومعالجتها بعداً استراتيجياً عليها، لتتحوّل وتُصنف إلى مورد حيوي تتنافس عليه القوى العالمية.
الخصائص الرئيسية:
1. التركيب: تضمّ مجموعة العناصر الأرضية النادرة كلاً من السكانديوم والإتريوم، إلى جانب خمسة عشر عنصراً من سلسلة اللانثانيدات، أبرزها النيوديميوم، واليوروبيوم، والديسبروسيوم، وتتميّز هذه العناصر بخصائصها الفيزيائية والكيميائية الاستثنائية، التي تمنحها مكانة فريدة في عالم المواد المتقدمة.
2. الخصائص: تُعرف العناصر الأرضية النادرة بقدراتها المغناطيسية العالية، وخصائصها الضوئية والكهروكيميائية المتفوقة، ما يجعلها مكوّناً أساسياً لا غنى عنه في صناعات التكنولوجيا الحديثة والأنظمة المتقدمة.
في قلب التقنية والدفاع والطاقة.. أين تُستخدم معادن الأرض النادرة؟
· التكنولوجيا: تُعدّ العناصر الأرضية النادرة مكوّناً حيوياً في صناعة الهواتف الذكية، والحواسيب، والفضاء، والأجهزة الإلكترونية المتقدمة؛ إذ تسهم في تصغير أحجامها، ورفع كفاءتها، وتعزيز قدراتها التقنية.
· الطاقة الخضراء: تلعب هذه العناصر دوراً محورياً في صناعة توربينات الرياح ومحركات المركبات الكهربائية، حيث تُعزّز خصائصها المغناطيسية من كفاءة توليد الطاقة وتحويلها، لتصبح ركيزة أساسية في مسار التحول إلى الطاقة النظيفة.
· الدفاع: تشكّل العناصر الأرضية النادرة مكوّناً استراتيجياً في تطوير الأسلحة الموجّهة بدقة مثل الصواريخ البالستية، وأنظمة الاتصالات العسكرية، وتقنيات الرصد والمراقبة، ما يمنح الجيوش المتقدمة تفوقاً تقنياً في ساحات القتال الحديثة.
معادن تتحكّم في موازين القوى.. الأهمية العالمية للعناصر الأرضية النادرة
1. سلاسل التوريد: تفرض الصين اليوم هيمنة شبه مطلقة على سوق العناصر الأرضية النادرة، إذ تستحوذ على أكثر من 70% من الإنتاج والمعالجة العالميين، ويُشكّل هذا التركّز الحاد تحدياً جيوسياسياً بالغ الحساسية، ويمثّل نقطة ضعف حاسمة في سلاسل التوريد للدول الصناعية الكبرى التي تعتمد عليها في صناعاتها الحيوية.
2. الأثر البيئي والاقتصادي: يُعدّ استخراج العناصر الأرضية النادرة ومعالجتها عملية معقّدة وذات تكلفة بيئية واقتصادية عالية، إذ تتسبب في تلوث واسع النطاق إن لم تُدر وفق معايير صارمة، وتزيد محدودية توفرها بكميات تجارية من أهميتها الاستراتيجية، ما يجعلها ورقة ضغط في التجارة العالمية، وعنصراً لا غنى عنه في مسار تطوير التكنولوجيا الحديثة.
خريطة كنوز الأرض.. الدول التي تمتلك أكبر رواسب العناصر النادرة
· الصين: تتصدّر الصين مشهد إنتاج ومعالجة العناصر الأرضية النادرة عالمياً، بفضل امتلاكها أكبر وأغزر الرواسب ذات الجدوى الاقتصادية العالية، ما يمنحها نفوذاً استراتيجياً حاسماً في الأسواق العالمية.
· الولايات المتحدة الأميركية: تسعى الولايات المتحدة إلى استعادة موقعها في هذا القطاع عبر استغلال رواسبها الغنية، وفي مقدمتها منجم "ماونتن باس" بولاية كاليفورنيا، الذي يُعدّ من أبرز مصادر العناصر النادرة خارج آسيا. ولذلك أبرمت الولايات المتحدة مؤخراً اتفاقية مع أوكرانيا تشمل المعادن، بما في ذلك العناصر الأرضية النادرة، بالإضافة إلى موارد قيّمة أخرى، ولهذا السبب نفسه، يريد ترامب ضم غرينلاند الى الولايات المتحدة.
· أستراليا: برواسب وفيرة خاصة في منجم "ماونت ويلد"، تحتل أستراليا موقعاً متقدماً كلاعبٍ صاعد في سوق المعادن الأرضية النادرة، مع خطط طموحة لزيادة الإنتاج وتعزيز قدرتها التصديرية.
· مناطق أخرى: تمتلك دول مثل البرازيل، والهند، وأوكرانيا وجنوب إفريقيا موارد واعدة من العناصر الأرضية النادرة، وتعمل على تطوير إمكاناتها لتأمين موقعٍ أفضل في هذا السوق الاستراتيجي المتنامي.
سباق الموارد.. أحدث التطورات في سوق العناصر الأرضية النادرة
· تنويع المعروض: في مواجهة هيمنة الصين، تسعى دول العالم بجهود حثيثة إلى تنويع مصادر إمدادات العناصر الأرضية النادرة، وتقليل الاعتماد على جهة واحدة، ويشمل ذلك استكشاف رواسب جديدة، وتوسيع قدرات المعالجة، وبناء سلاسل توريد أكثر أماناً واستقراراً لضمان استمرارية الصناعات الحيوية.
· الابتكارات التكنولوجية والبيئية: يشهد القطاع طفرة في الأبحاث الرامية إلى تطوير ممارسات تعدين صديقة للبيئة، وتحسين تقنيات إعادة التدوير لاستخلاص العناصر من الأجهزة والمخلّفات الإلكترونية، كما تتسارع جهود ابتكار مواد بديلة قد تُقلل من الاعتماد على هذه العناصر في بعض التطبيقات التقنية المستقبلية.
الخلاصة.. معادن صغيرة بقيمة استراتيجية ضخمة
تمثّل العناصر الأرضية النادرة عصب التطور التكنولوجي الحديث والاقتصادي والاستراتيجي في القرن الحادي والعشرين، فبفضل دورها المحوري في الصناعات الحيوية —من الطاقة المتجددة إلى الاتصالات وتكنولوجيا الفضاء، والروبوتات والدفاع— باتت هذه العناصر محوراً لصراعات النفوذ وإعادة رسم خرائط سلاسل التوريد العالمية.
ومع تصاعد الطلب عليها، تجد الدول نفسها أمام معادلة دقيقة؛ تحقيق الأمن التكنولوجي والاقتصادي من جهة، والحفاظ على البيئة وضمان استدامة الموارد من جهة أخرى، وسيكون للتوازن بين هذين المسارين الأثر الأكبر في تشكيل مستقبل التجارة الدولية والمعادلات الجيوسياسية لعقود مقبلة.
تم إعداد هذه المقالة لصالح CNN الاقتصادية، والآراء الواردة فيها تمثّل آراء الكاتب فقط ولا تعكس أو تمثّل بأي شكل من الأشكال آراء أو وجهات نظر أو مواقف شبكة CNN الاقتصادية.